الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا التحدّيات والمتغيّرات الإقليمية والخيارات المستقبلية

تعيش مناطق شمال وشرق سوريا في سياق إقليمي ودولي متوتّر ومتداخل من ناحية المتغيّرات؛ حيث تتصاعد حدّة التدخّلات العسكرية والسياسية فيما بين قوى إقليمية ودولية، وهو ما يشكّل تهديداً للاستقرار القائم في مناطق الإدارة الذاتية؛ وتفسّر هذه المتغيّرات على أنّها إفرازات كامنة ظهرت كمحصّلة لحجم التدخّلات على الساحة السورية عموماً والإدارة الذاتية خصوصاً، والتي تتراوح ما بين الحرب الناعمة من خلال بثّ الفوضى الخلّاقة كأزمات داخلية، وبين التدخّلات التصادمية من قوى كتركيا وإيران، ونتيجة تصاعد حدّة اللهجة بين هذه الدول من جهة وإسرائيل من جهة أخرى بسبب الحرب الفلسطينية، تبدو الإدارة الذاتية في غضون ذلك أمام مواجهة عسكرية أو لوجستية، على الأقل؛ فتغدو مناطقها ساحة لحرب مفتوحة تؤثّر على فاعليتها الحيوية وسط معادلة النزاعات الجارية في سوريا والمنطقة.
هذه الدراسة تستعرض السياقات المختلفة التي تشكّل إطاراً لهذه المتغيّرات وتداعياتها، وتبحث في الخيارات المستقبلية التي قد تتبنّاها الإدارة الذاتية لضمان تواجدها، كمؤثّر في المنطقة، وتعزيز دورها في المشهد الإقليمي المتقلّب.
أولاً- سياقات وتداعيات:
تشهد منطقة الشرق الأوسط تصعيداً عسكرياً واسع النطاق عقب مرحلة من التراشق الإعلامي بين القوى الإقليمية والدولية؛ حيث تحوّلت الخطابات المتوتّرة إلى مواجهات ميدانية تؤجّج النزاعات القائمة. هذا التصعيد لا يقتصر على الأطراف المباشرة في الصراع، بل يمتدّ تأثيره إلى باقي دول المنطقة، وهو ما يخلق حالة من عدم الاستقرار والتوتّر المستمر. ارتدادات هذا التصعيد تتجلّى في ردود الفعل السريعة من مختلف الفاعلين؛ كنتيجة طبيعية لتراكم الأزمات المغلقة، وكمؤشّر طبيعي إلى حجم التداخلات وتباين المواقف؛ وهو ما يعكس الاتجاه نحو مسار الضغط العسكري الممارَس من قوى إقليمية ودولية لمسار أكثر تصادماً من ذي قَبل.
وتبدو الإدارة الذاتية، التي تسيطر على مساحة جغرافية واسعة، نقطة ارتكاز هامة في أي سياق سياسي أو عسكري يتعلّق بالفاعلين المحلّيين أو الإقليميين؛ بحيث لا يمكن إخراجها من النسق التجاذبي السياسي أو العسكري لأي احتكاك آلي. ويبرز أثر هذه المتغيّرات عند التعامل مع تداعياتها؛ على نحو ما حدث من استضافة اللاجئين اللبنانيين في مناطقها، أو احتواء العناصر الإرهابية الأجنبية لتنظيم داعش في مخيّم الهول على الرغم من انتهاء الحرب نسبياً، أو ارتدادات الجسر البرّي لمليشيات إيران بين العراق وسوريا. ومن الأهمية القول أنّ الإدارة الذاتية لاعبٌ مهمٌّ في معادلة المنطقة، خاصة فيما يتعلّق بالتداخلات الذاتية والموضوعية على الصعيدَين السوري والإقليمي.
تواصل الإدارة الذاتية ترسيخ نموذجها الديمقراطي ضمن مشروع ”الأمة الديمقراطية“، متجاوزة تبعات المتغيّرات الصادرة عن القوى الكبرى مثل تركيا، روسيا، وإيران، برؤية مستقلّة فضفاضة تقوم على مشاركة جميع المكوّنات العرقية والدينية، وتعزّز الديمقراطية التشاركية، وحقوق الإنسان، وتمكين المرأة، ما جعل هذا النموذج أساساً للاستقرار وتحقيق التطلّعات الشعبية. وبرغم محاولات تركيا تقويض هذا المشروع، وجهود روسيا وإيران لاستعادة نفوذ النظام السوري، إلّا أنّ الإدارة الذاتية قد أثبتت مرونتها من خلال بناء مؤسسات قوية، وحظيت بدعم محلّي ودولي؛ لدورها في الحفاظ على الأمن والاستقرار.
أضف إلى ذلك ما تتمتّع به الإدارة الذاتية من قدرة تكتيكية في كبح للمتغيّرات المختلفة وإفرازاتها، سواء داخل مناطق الإدارة الذاتية أو حتى خارجها، خاصة تلك التي تُفرَض من الخارج، مثل محاولة تركيا تصدير ما تسمّى بـ”المنطقة الآمنة” كمشروع ديموغرافي هجين، أو خلق دور متوازن بالتعامل مع أحداث دير الزور الأخيرة ومواجهتها أنماطًا من تفاعلات العصبية القَبَلية الخشنة، أو على نحو ما يحدث باستمرار من تحشيد تركيا لاجتياح المنطقة من خلال عمل عسكري متواتر من حين إلى آخر، أو العمليات السرية لإيران في المنطقة والتي تؤجّج عدّة سياقات معاً، سواء وجود القوات الأمريكية من جهة أو العشائر العربية من جهة أخرى.
مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ تموضع الإدارة الذاتية وسط هذه القوى الساعية إلى إضعافها أو تقويضها، لصالح إعادة تشكيل السلطة في المنطقة بما يخدم مصالحها الاستراتيجية، قد أعاد ترتيب المتغيّرات الثابتة كالمسار السياسي المجمّد، أو الطارئة الخاصة بالملف السوري بشكل خاص، وتعاملها بشكل ناجح على الصعيد الداخلي بتحقيق استقرار نسبيّ، مقارنة بغيرها من المناطق سورية، من ناحية توفير خدمات أساسية للسكان. أمّا على الصعيد الخارجي فمن خلال تقديم “مسد” خارطة طريق للحل السياسي السوري؛ وهو ما يجعل الإدارة الذاتية طرفاً فعّالاً ومؤثّراً يمتلك رؤية تتجاوز مجرّد كونها نتاجاً لمرحلة مؤقّتة – كما يدّعي منظّرو هذا الرأي- معتمدة على استراتيجيات متعدّدة لتجنّب النزاعات وتعزيز التعاون.
من الواضح أنّ الإدارة الذاتية تعتمد على نهج “الصبر الاستراتيجي” في التعامل مع المتغيّرات الداخلية والخارجية، في ظلّ محاولات الفاعلين المختلفين تغيير موقعها في شمال سوريا؛ سواء عبر سياسة قضم الأراضي، كما حدث في احتلال عفرين وسري كانييه/رأس العين وكري سبي/تل أبيض، أو تقويض بنيتها العسكرية والحيوية، أو محاولة اختراق قاعدتها الشعبية. وفي مواجهة ذلك؛ تلجأ الإدارة الذاتية إلى الدبلوماسية وتعزيز الانفتاح لتجاوز هذه المتغيّرات التي يُنظر إليها كمعطيات نهائية لا تكون فيها الإدارة الذاتية فاعلاً من خلال تشكيل توازنات داخلية بما يتماشى مع مصالحهم الإقليمية والدولية، عبر سياسة الضغط الدبلوماسي أو من خلال تحريك أذرعهم العسكرية، بما يُعرَف باستراتيجيات النفوذ بهدف زعزعة الاستقرار.
من الملاحَظ أنَّ الإدارة الذاتية كذلك تتعرّض لنوعَين من المتغيّرات؛ أحدهما مؤقّت والآخر دائم، ما ينتج عنها تداعيات وتبعات مستمرّة ومتعدّدة. من بين المتغيّرات المؤقّتة، نجد أنّ كلّاً من روسيا والنظام السوري وبعض المجموعات العسكرية المرتبطة بإيران عسكرياً وأيديولوجياً، مثل ما يُسمّى بـ “جيش العشائر”، التي تنشط في الجهة الشرقية من مناطق الإدارة الذاتية، وتحديداً في الضفة الغربية لنهر الفرات، تستفيد هذه القوى بشكل كبير من التفاعلات بينها وبين الفاعلين الآخرين، واستثمارها بصيغ مختلفة لتحقيق مكاسب استراتيجية، بتعزيز وجودها العسكري أو بالضغط عبر الهجمات لإنهاء الوجود الأمريكي في المنطقة حتى مع صدور قرار إعلان أمريكا مغادرة سوريا في أيلول من عام 2026م.
أمّا النوع الثاني من المتغيّرات الدائمة فيتمثّل بعداء تركيا الصريح للإدارة الذاتية منذ تأسيسها، والذي تجسّده بأنماط مختلفة من السياسات الانتقامية والتجييش والاستعداء بتدخّلات عسكرية مباشرة، كما حدث في المناطق المحتلة، أو بقصف مناطق الإدارة الذاتية، على نحو ما حدث في العام الماضي باستهدافها البنية الحيوية، ودعم فصائل معارضة ذات أهداف متقاطعة مع السياسة التركية، ناهيك عن نوايا تركيا للتقارب مع النظام السوري تحت قاعدة “الضرورات تبيح المحظورات”، حيث يكمن رهانها بأنّه سيسهم في تحسين الظروف الاقتصادية المتدهورة. أمّا مواجهة الإدارة لهذه المخاطر فيكمن بقدرتها على إدارة الأزمات والمتغيّرات وتعاملها بحنكة سياسية، فيما يتعلّق بموقعها في المعادلة السورية وحماية استقرار المنطقة من إعادة صياغة موازين القوى والتأثير على مستقبل المنطقة ككلّ.
ثانياً- خيارات الإدارة الذاتية أمام المتغيّرات:
إنّ انسداد أفق الحوار بين الإدارة الذاتية والنظام السوري، وغياب توافق دولي حول حلّ الأزمة السورية وفق مسار جنيف، وعدم جدّية تركيا في الاستجابة لدعوات الحوار التي أطلقتها قيادات الإدارة الذاتية، يزيد من احتمالات استمرار العمليات العسكرية، ويفاقم معاناة المدنيين جراء الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، في ظلّ موجات نزوح مستمرّة إلى مناطق الإدارة الذاتية التي تحتضن أكثر من ثلثَي سكّان سوريا، وهو ما يشكّل ضغطاً إضافياً على البنية التحتية والخدمات الأساسية ويزيد من تحدّيات الاستقرار في المنطقة.
في ضوء هذه المتغيّرات، يمكن تصوّر ثلاثة سيناريوهات رئيسية لمواجهة الإدارة الذاتية لتلك المتغيّرات:
السيناريو الأول: تعزيز التحالفات الداخلية والخارجية:
إنّ الضغوطات التي تواجهها الإدارة الذاتية من مختلف الأطراف الفاعلة تبدو في ظاهرها موجّهة للقضاء عليها، إلّا أنّ الهدف الأعمق لها يكمن في إخراج التحالف الدولي، وخاصة الولايات المتحدة، من شرق الفرات. وعلى الرغم من التعاون الوثيق للإدارة الذاتية مع القوى الدولية، مثل الولايات المتحدة وروسيا، لضمان حماية مناطقها من التدخّلات العسكرية التركية والإيرانية أو من محاولة النظام السوري استعادة السيطرة، إلّا أن هذا التعاون يظل هشّاً؛ كونه يتركّز بشكل أساسي على الجانب العسكري.
إنّ ما يراهن عليه الفاعلون في الملف السوري من أنّ الوجود الأمريكي في المنطقة غير دائم، هو ما قد يضع الإدارة الذاتية أمام فرص محدودة لضمان استمرار مشروعها. بناءً على هذا السيناريو؛ يتعيّن على الإدارة الذاتية توسيع استراتيجياتها لتشمل بناء تحالفات سياسية وعسكرية قوية مع أطراف دولية وإقليمية، بهدف تقديم نفسها كعنصر لا غنى عنه في مواجهة التهديدات المشتركة، مثل الإرهاب أو زعزعة الاستقرار في المنطقة، وترسيخ مكانتها كفاعل أساسي في الحل السياسي المستقبلي لسوريا، وهو ما سيمنحها مزيداً من الشرعية والدعم الدولي، ويعزّز قدرتها على مواجهة المتغيّرات المستقبلية بنجاح.
السيناريو الثاني: التركيز على بناء القدرات الذاتية:
كان لتأثّر الاقتصاد السوري بالعقوبات الاقتصادية التي فرضتها أمريكا، وإغلاق المعابر الإنسانية مع الإدارة الذاتية أثرٌ في عدم انتعاش مناطقها اقتصادياً وتنموياً، ناهيك عن أنّ الإدارة الذاتية نامية ولا تزال في طور المأسسة الإدارية، في حين تدرك القوى الفاعلة هذه الجزئية وتحسن استغلال هذه الشقوق للتسرّب والعمل على تحلّلها وإضعافها داخلياً؛ لاعتبار غياب التكنوقراط والخبرة الإدارية، كما تعمل تلك القوى على استغلال نقاط الضعف التنظيمية والاقتصادية والسياسية من أجل تقويض الشرعية المتنامية، وتوجيه الأنظار نحو بدائل تتناسب مع مصالح تلك القوى الإقليمية والدولية واعتبارها كيانًا انفصاليًا، مستخدمين الدعاية الإعلامية والحرب الخاصة حيناً، وحيناً آخر دعم الجماعات المحلّية المناهضة؛ سواء من خلال تسليحها أو تمويلها أو تأجيج الخلافات القَبَلية والعِرقية.
وتتبع هذه القوى استراتيجيات متعدّدة تهدف لخلق حالة من الفوضى الخلّاقة وعدم الاستقرار؛ وهو ما يسهّل تدخّلها في شؤون المنطقة، ويعزّز من قدرتها على فرض رؤاها السياسية والجيوسياسية، إضافة إلى منع الإدارة الذاتية من توسيع قاعدة تأييدها الشعبي وهيكلة مؤسّساتها بشكل أكثر رسوخاً، وبالتالي؛ عرقلة أي مشروع ديمقراطي أو تعدّدي يتعارض مع مصالحها. في هذا السيناريو، ينبغي على الإدارة الذاتية التركيز على تقوية بنيتها الداخلية والجبهة الداخلية؛ لتكون أكثر استقلالية وقدرة على الصمود أمام التهديدات الخارجية، وذلك من خلال تعزيز القدرات العسكرية لتأمين الحدود، وتحسين الاقتصاد المحلّي لزيادة الاكتفاء الذاتي وتوطيد العلاقات مع المجتمع المحلّي، عبر تعزيز المشاركة الشعبية وتوفير الخدمات الأساسية، مثل الصحة والتعليم؛ لتأمين استقرار طويل الأمد وتقليل الاعتماد على الدعم الخارجي.
السيناريو الثالث: البحث عن الدعم الدولي والشرعية:
في ظلّ المتغيّرات المتزايدة التي تواجه الإدارة الذاتية، خاصة في ظل تعثّر الحوار السياسي حول الملف السوري بين الأطراف السورية وجمود التسويات الدولية مثل اتفاقية جنيف، يصبح السعي للحصول على الدعم الدولي والشرعية أمراً ضرورياً للإدارة الذاتية؛ لتعزيز حضورها في المحافل الدولية مثل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، وهو ما يتعيّن عليها تعزيز الروابط مع الجاليات السورية في الخارج واستثمار خبراتها لدعم قضيتها، كما ينبغي بناء شراكات مع منظمات المجتمع المدني، المحلّية والدولية، لتطوير مشاريع تنموية تركّز على التعليم والصحّة وتحسين مستوى المعيشة؛ وهو ما سيساهم في تعزيز شرعيتها وزيادة تأييد المجتمع المحلّي.
ولابدّ من التأكيد على أنّ التركيز على تعزيز حقوق الإنسان والتنمية المُستدامة ضرورة قصوى؛ لتثبت أنّها ليست مجرّد قوة عسكرية تأسّست وفق مفاعيل عسكرية لمجابهة تنظيم داعش، وإنّما هي إدارة مدنية ديمقراطية ومن أولوياتها تحقيق رفاهية سكان المنطقة. أمّا على المستوى الإجرائي فينبغي تفعيل خطّة “مسد” بشكل عاجل؛ والتي تنصّ على فتح آفاق للحوار مع جميع الأطراف، بما فيها المعارضة، من خلال هذه المفاوضات، وقد تحصل الإدارة الذاتية على اعتراف إقليمي وقانوني أوسع؛ وهو ما يساهم في تحجيم المتغيّرات، مهما كانت، وضبط إيقاعها المتقلّب.