احتجاجات السويداء؛ صحوة أم جوع؟

خضر الجاسم

 

 

منطق (الأنا) الذي يتغنّى به النظام السوري وغيره من الأنظمة التي على شاكلته هي غريزة فطرية في اللاوعي، هذه (الأنا) هي القوّة الكامنة التي تجعل النظام في موقف قوّة، والآخرين في موقف ضعف، حيث يبدو مَن يخالفونه – بنظره – مخطئين ومجرّد غبار على نعل. لم يفهم النظام السوري بعدُ أنّ القبضة الأمنية أو العسكرة على الرغم من أنّها أعادت إليه جزءًا كبيرًا من الأرض، لم تنجح في إعادة شرعيته التي فقدها جرّاء وحشيّته وجبروته على شعبه، ومن الواضح أنّها لن تعود، وخير مثال على ذلك ترسيخ الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا عند الشعب وأيضًا احتجاجات السويداء الأخيرة.

في يقظة ربما تكون متأخّرة انتفض الشعب في السويداء أمام مبنى السرايا الحكومية، احتجاجًا على الأوضاع المعيشية المتدهورة، التي وإن كانت هذه حقيقتها، إلّا أنّها تعكس حالة إفلاس النظام شعبيًا ولم يعد يملك ما يقدّمه للشعب بشكل عام، أو بشكل دقيق لحاضنته التي طالما كان يعوّل عليها في كلّ حدث سياسي، بأنّه لا يزال يملك مفاتيح الشرعية للبلاد. شعر أهالي السويداء بأنّهم تأخّروا في الخروج عن الحياد الإيجابي، وأنّ سياسة “مَسك السُّلّم من المنتصف” أو حالة “بين بين”، أي معارضة النظام السوري تارة والاستظلال بجلبابه تارة أخرى لم تجلب لهم سوى الألم والفقر والجوع. إذًا ما يحدث من احتجاجات في السويداء هي ثورة للذهنية قبل كلّ شيء ومراجعة للذات. قطعاً، ما حدث بالفعل أنّ الشعب في السويداء استشعر بأنّ القطار قد فاتهم أو أوشك بالفعل، وأنّ السوريين الآخرين في المناطق الأخرى بأفضل حال منهم خاصّة الكرد، كشعب سبقوهم وناضلوا من أجل اليوم الذي ينصفون فيه في ظلّ الإدارة الذاتية منذ انتفاضة عام /2004/

حلم الشعب في السويداء أن تكون لهم تجربتهم الذاتية كتلك التي في منطقة شمال وشرق سوريا، خاصّة أنّ السويداء تمتلك كلّ المقوّمات لتحقيق ذلك الحلم، ويا لَه من حلم! تقف دونه (الأنا) المتضخّمة لدى النظام السوري الذي لا يقبل أن يرى الحالمين إلّا به، ويهتفون باسمه ويصفّقون له في كلّ الميادين. فالذهنية القوموية التي يتّسم بها النظام السوري تتزمّت تجاه أي اختلاف عرقي أو قومي أو طائفي أو مذهبي أو ديني، لأنّها تُطْرَح وفق شعار “الأسد أو نحرق البلد”، أو “الأسد أو لا أحد” التي تكرّس الفرقة أكثر من كونها عاملًا للوحدة، وعليه فمصير الدولة السورية مرتبط بفرد واحد هو شخص الرئيس الأسد. ووفق هذا المبدأ في الفصل العنصري بين السلطات والشعب، فسوريا مقسّمة قبل أن تُقَسّم إلى أربع حكومات الآن. والموزاييك السوري الذاخر بالتنوّع الذي طالما امتدح فيه النظام السوري بأنّه حامٍ للأقلّيات، فإنّه في خطر نتيجة الديباجة العنصرية المزروعة فيه حتى النخاع.

وتتوزّع طائفة الدروز في محافظة السويداء بمدن (صلخد وشهبا والقريّا) في جبل العرب وفي (جرمانا) قرب دمشق و(مجدل شمس) في الجولان السوري المحتلّ، وفي قرىً في محافظة إدلب. ويقدّر عدد طائفة الدروز السوريين بنحو ( 3% ) بواقع / 700 /  ألف نسمة من إجمالي عدد السكان البالغ  /23 / مليون نسمة. ويسجّل التاريخ لطائفة الدروز الكثير من القضايا المشرّفة منذ العصر الفاطمي مرورًا بالعثماني ومن ثم حقبة الاستعمار الفرنسي. ويُعْتَبر سلطان باشا الأطرش أيقونة الثورة السورية الكبرى، وتحوّل من خلالها لقائد تاريخي، بعد أن قاد جموع الثوار آنذاك ضدّ الاحتلال الفرنسي. ولاشكّ أنّ ما يميّز الدروز هي مشيخة العقل الدرزية التي تتألّف في الوقت الراهن من ثلاثة مشايخ، وبخلاف (حكمت الهجري) تجمع (يوسف الجربوع وحمود الحناوي) علاقة طيّبة بطبيعة العِداء للـ (هجري)؛ بسبب القوّة والنفوذ الذي يتحكّم به نتيجة التفرّد بقرار الطائفة الدرزية والسيطرة على مقام “عين الزمان”. وتعدّ هذه الدار الأولى للطائفة في سوريا، ويجتمع فيها مشايخ العقل، وتلعب دور الإدارة الذاتية الداخلية للدروز، حيث تقدّم خدمات اجتماعية واقتصادية وصحية لأبناء السويداء، إضافة إلى أنّها سلطة قضائية عشائرية تحتكم لها معظم العائلات في حال وقوع خلافات بينها، وتدير شؤون الطلاق والزواج.

كان وصول حزب البعث العربي الاشتراكي لمقاليد الحكم في سوريا نذيرًا لحياة مليئة بالخوف والعربدة الأمنية، خاصة تجاه من يخالفونه الرؤى والمنطلقات النظرية والعقائدية، ويعود النظام في سياسة (المراوحة بين المنهج الأمني ولغة السياسة) إلى ما أرساه الأسد الأب ثم الأسد الابن في بعض المواقف المماثلة كما حدث عام /1984/ م. حين حاولت سلطات الأمن منع إقامة الحفل السنوي لوفاة الزعيم الوطني سلطان الأطرش، ليتحدّى دروز مدينة السويداء هذا الرفض بإقامة الاحتفالية، لتواجهه قوات الأمن باعتقال عدد من المشاركين في الاحتفال، الأمر الذي زاد من حدّة الاضطراب الذي تعيشه المدينة السورية. ويحرص النظام على ألّا تصل العلاقة مع الدروز في السويداء إلى نقطة اللاعودة، فيطلّ بين الحين والآخر بوجهه السياسي الساعي للحوار وتفهّم مطالب زعماء الطائفة الدرزية، حتى لو اضطرّ في بعض الحالات لتقديم الاعتذار، منعًا لتفاقم الاضطرابات وتجاوزها الحدود الآمنة. وكان الهدف الأساسي للنظام السوري من وراء هذا النهج الجديد الذي اتّبعه في علاقاته مع الدروز هو كسب ولاء زعماء الطائفة من خلال عدد من الامتيازات، أبرزها منحهم سلطات محلّية للقيام بدور الوساطة والحوار والتفاوض بين المجتمع الدرزي والنظام.

ومع اندلاع الثورة السورية في مارس (آذار) عام /2011/ تمسّك زعماء دروز سوريا بموقف الحياد من هذه التظاهرات، مع تصدير خطاب رفض الدعوة لاستخدام العنف ضدّ النظام، ما اعتبره البعض دعمًا غير مباشر. وما طاعة الدروز العمياء لمشيخة العقل إلّا عاملًا ساهم في تبنّي هذا الموقف المحافظ من الاحتجاجات المناهضة لسياسة النظام السوري؛ فقد شكّلت سياسة التخويف الحكومية التي اتّبعها الأسد مع الأقلّيات الدينية، عاملًا آخر في تفسير هذا الموقف المحايد. تتجدّد الاحتجاجات في السويداء مرّة تلو الأخرى لأسباب عديدة إلّا أنّ آخرها عكس الفجوة بين أهالي السويداء على وقع أسوأ أزمة اقتصادية تعيشها سوريا منذ سنوات. فالجوع فتك بالخوف الذي في صدور المتظاهرين الغاضبين، وأضرموا النار في أجزاء من مقرّ محافظة السويداء (السرايا الحكومي) وسط تبادل كثيف لإطلاق النار.

في ضوء ما تقدّم من مقدمات ونتائج في السياق، ما مستقبل السويداء في ظلّ هذه الاحتجاجات؟ وما موقف النظام منها؟ للإجابة عن هذه الأسئلة ينبغي التأكيد على وجود ثلاثة مواقف مختلفة أمام الدروز: فإمّا الاندماج مع الغالبية الرافضة لسياسة النظام في جرّ البلاد إلى الهاوية ومواجهة النظام، وهو ما يدعو إليه الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط. أو الاصطفاف مع النظام في معركته ضدّ الغالبية السورية، أي الانخراط في حلف الأقلّيات، وهو ما يدعو إليه شيخ العقل الأول في السويداء (حكمت الهجري). أو الحياد، وعدم الانخراط في الصراع السوري تحت أيّ ظرف، وهو ما يدعو إليه زعيم «مشايخ الكرامة» (وحيد البلعوس) الذي يخرج عن ذلك الموقف بعد أن تلقّى جواباً من (غسان إسماعيل)، رئيس شعبة المخابرات الجوية، ينمّ عن تبجّح النظام في التعامل مع أهالي السويداء خصيصًا والسوريين عمومًا، حيث قال بالحرف الواحد: “فعسنا بقلب عشرين مليون سنّي ومش عاجزين عنكن يا دروز”، ليردّ البلعوس “إذًا سننبش قبر حافظ الأسد من القرداحة”. هذه المواقف قد تخرج عن السيطرة إلى سلسلة من التجاذبات المتنافرة نتيجة تدخّلات دولية وإقليمية، والتي تجعل الدروز خارج مسافة أمان من التشظّي بأتون الحرب السورية. لكن ذلك لا يعكس حقيقة أنّ محافظة السويداء الآن بشعبها ليس بمقدورهم إزاحة النظام من السويداء، في ظلّ تمويله وتسليحه لمجموعة كبيرة من المليشيات العسكرية الدرزية، وأهمّها «الدفاع الوطني» أو «درع الجبل» والذي يضمّ حوالي ألف مقاتل يحملون بطاقات تعريف عسكرية، وبطاقات إذن بحمل السلاح صادرة عن وزارة الدفاع السورية.

وما يلاحَظ أنّ الحراك الشعبي لا يعدو كونه ” فشّة خلق” سيتعامل معها النظام من خلال امتصاص الغضب الشعبي، عبر سلسلة من الامتيازات للقيادات الدرزية والفصائل المليشياوية وتحقيق بعض المطالب الشعبية، نظرًا لغياب القيادة الثورية الحقيقية القادرة على توجيه مسار الحراك إلى مسار ثوري ناجح. أمّا الأمر الآخر فهو أنّ إسرائيل تخشى من امتداد الحراك الثوري إلى دروز فلسطين والجولان ولبنان من جهة أخرى، ومحاولات إيران التقرّب من الدروز مذهبيًا، بوصفهم منشقّين عن أحد فروع المذهب الشيعي، وقيامها بحملات التسليح والتدريب التي ينظّمها «حزب الله» تحت مسمّى «حزب الله السوري» أو «لبّيك يا سلمان».

 

زر الذهاب إلى الأعلى