روسيا وتركيا… المطرقة والسندان.

روسيا وتركيا... المطرقة والسندان.

في إلقاء نظرة على الساحة الدولية، ومتابعة المشهد المعروض على المسرح السياسي نجد تركيا وروسيا بقيادة أردوغان وبوتين الأكثر حراكاً وتواصلاً على الأقل في العلن، في أوقات من المفترض أن تكون روسيا تحت العقوبة ومعزولة سياسياً، ولكن على ما يبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية والغرب اضطروا إلى إبقاء النافذة التركية مفتوحة للروس، وهذه النافذة تُستغل على كافة الأصعدة من قبل روسيا لتستطيع مناورة ما يفرض عليها من عقوبات في الوقت الراهن والمستقبل.

عندما تَكسر العزل السياسي دولة من حلف الناتو وتقيم علاقات فوق الاعتيادية على مستويات مختلفة وعلى جميع الأصعدة العسكرية والسياسية والاقتصادية فإنها تقدم دعماً للسياسة التي تنتهجها روسيا ومزيداً من القوة في المواجهة.

فالذي لا يتابع السياسة من قبل ويرى المشهد الآن يظن أن الزعيمين يقودان العالم بزخم الملفات التي يضعونها على الطاولة، ويصورون للعالم أن مصير العالم الأمني والعسكري والاقتصادي مرتبط بتفاهمهما، وأي خلاف قد يؤدي الى أزمات لا يمكن وضع الحلول لها.

الجدير بالذكر أن قمة سوتشي الأخيرة والتي بدأت من حيث انتهت قمة طهران أوضحت أن مستوى العمل والعلاقة يختلف عما تعتاده الدول وهو من خلال بناء غرف عمليات خاصة بأزمة معينة ومشتركة من ممثلين للطرفين، ولكن الذي بدا واضحاً أنه كانت هناك ما يشبه غرفة عمليات تركية- روسية عبر الاجتماعات والقمم التي تعقد، والدليل على ذلك الاجتماع الطويل الذي دام أربعة ساعات، ومن المفترض أن تكون الوزارات المختصة قد أنهت التحضيرات ووضعت المسودات لبحث عدة ملفات قد يكون الملف السوري هو الثاني أو الثالث بالأهمية، إلى جانب قضايا الطاقة والاقتصاد والأمن، إذاً الملفات يتم نقاشها على أعلى مستوى لدى البلدين ولا تترك للوزارات المختصة، وإذا ما دلّ هذا على شيء فإنه يدل على حساسية الموقف والقضايا، ورأي كل طرف في القضايا العالقة، ولدى انتهاء كل قمة يتم طرح تصريحات مبهمة لا توضح الموقف أو التطورات القادمة، وهذا ما يزيد  وضوحاً بأن ثمة خلاف قائم والفجوة الموجودة بين الموقفين لم تردم.

الآن وبعد كل المد والجزر والتوسط بالحل للكثير من القضايا وتقارب وجهات النظر في السياسة التي يجب إتباعها في القضايا العالقة، يبدو أن روسيا وتركيا اتفقتا على سياسة تشبه المطرقة والسندان من خلال الاستهداف العسكري والسياسي، والضغط بكل الوسائل المتاحة فقط بهدف تحقيق أهداف الدولتين دون النظر الى الحلفاء. فقد بات واضحاً أن العلاقة التي يتمسك بها كلا الطرفين تعتبر مكسباً لروسيا وسط هذه الحرب التي أعلنتها على أوكرانيا والتي ترى أن تركيا وسيط ناجح وفعال في ترويض الغرب وتنفيذ متطلبات روسيا وفق الاحتياجات التي تكفل مقاومتها للعقوبات الاقتصادية المفروضة عليه، وروسيا تعرف ضمنياً أن تركيا مدفوعة للقيام بهذه المهمة من الغرب الذي وجد نفسه تحت المطرقة من خلال الحاجة للطاقة وسط خطر وقف ضخ الغاز الروسي. إن سلوك تركيا هذا أيضاً اكسبها شعوراً بأنها باتت الأقرب لتكون لاعباً دولياً مهماً، وأن رضوخ الدول لمتطلباتها بات أسهل آخرها محاولة الحصول على موافقة لاحتلال أجزاء أخرى من شمال سوريا ولكن الرد العام من القوى الدولية والإقليمية الفاعلة كان عكس توقعات تركيا، لذلك لجأت تركيا إلى الغرف المغلقة لحفظ ماء الوجه كان آخرها طلب أردوغان من بوتين اللقاء في سوتشي، الموقف الذي وضع حزب العدالة والتنمية نفسه به بات يضيق الخناق عليه خاصة أن العملية العسكرية المزعومة كانت بحجة إعادة اللاجئين السوريين، الملف الذي تلوح به الأحزاب القومية التركية المنافسة في الانتخابات القادمة. والآن تركيا أمام خيارين إمّا إجراء عمل عسكري لقضم جزءٍ من سوريا أو عقد تفاهمات تعلن بوضوح حلحلة أزمة السوريين، بالنسبة للخيار الأول الذي نبدأ به من حيث نقطة التعقيد فيه غرب الفرات الذي يقع تحت النفوذ الروسي وشرق الفرات الخاضع للنفوذ الأمريكي، ومن هنا قد تمنح روسيا موافقتها لشن عمل عسكري رغبة منها بإحداث مشاكل سياسية بين أمريكا وتركيا وتمنح تركيا في سبيل ذلك كل الحوافز للقيام بهذا العمل بشكل مخالف لما تُعلنه، بالمقابل تتشاطر مع تركيا في مخاوفها الأمنية وتتفق على محاربة الإرهاب دون الإعلان من هو المقصود بالإرهاب؟ فكل منهما لديه قائمة إرهاب خاصة به، وهنا تبدو معالم الصفقة التي عقدت بين الطرفين والتي لاحت في الأفق عندما أعلن وزير الخارجية التركي الاستعداد في تقديم الدعم السياسي للدولة السورية في محاربة التنظيمات الإرهابية مع فصل المعارضة المعتدلة عن الإرهاب حسب تعبيره، بالتأكيد هذا التصريح صدر لإرضاء روسيا ولكن لتقع تركيا في الفخ وتعلن روسيا إشرافها على مناورات عسكرية مشتركة هي الأضخم من نوعها تحاكي التصدي لعملية عسكرية ما، وما كان من أردوغان إلا الذهاب إلى روسيا ومن هناك يبدو تم الاتفاق على تسليم إدلب إلى روسيا وهذا ما يفسر السماح لهيئة تحرير الشام بالسيطرة على مناطق واسعة نسبياً في ريف حلب وعفرين، وبالمقابل القيام بمزيد من الضغط من قبل الروس على قوات سوريا الديمقراطية لتقديم تنازلات في منبج وتل رفعت، كما وتشترك كل من الولايات المتحدة الأمريكية ومن خلفها التحالف الدولي من جهة وروسيا من جهة أخرى في غضّ النظر عن الانتهاكات المستمرة للأجواء في شمال سوريا والاستهداف المستمر للمسيّرات التركية التي افقدت الأمان في كل مكان حيث تقصف بين الأحياء الشعبية وفي الأراضي الزراعية والرعوية والطرقات العامة ويسقط في كل مرة ضحايا مدنيين.

هناك العديد من الملفات بين روسيا وتركيا تجعل التقارب السياسي أكثر من أي وقت مضى، وروسيا تُحسن استثمار رغبة تركية في توسيع نفوذها والتي وجدت في روسيا الباب الذي يمكم من خلاله التأثير في قضايا عالمية وعلى رأسها الأزمة الأوكرانية، كما إنها تُلمّح لروسيا بإنها تضبط الأمن في آسيا الوسطى بضبط أذربيجان والمجاهدين القوقاز وتهدأتها في ظل عدم رغبة روسيا في حدوث أي أزمات في محيطها في ظل استمرار حربها على أوكرانيا وتأخر تحقيق أهدافها. ومن جانب آخر أعلن أردوغان أن المحطة النووية الروسية في تركيا توفر 10%من حاجة تركيا للطاقة كما تستورد تركيا 50% من طاقتها من روسيا، وهذا الملف يعد الأهم ويتجاوز الملف السوري ما يدعم الرأي الذي يستعبد حصول أي اصطدام عسكري في سوريا بين روسيا وتركيا.

وكالمعتاد فالمصالح هي التي تربط روسيا وتركيا، والطرفين بحاجة للحفاظ على هذه العلاقة حتى ولو وصل الأمر للتخلي عن أطرافٍ بعينها، فلا يستبعد تخلي تركيا عن المعارضة وتسليم الأراضي لروسيا بأي فترة من الفترات أو حتى انتقال روسيا بنظام الحكم في سوريا الى مرحلة مرضية لتركيا. إلا أن روسيا حتى اللحظة تُحسن التعامل مع تركيا حسب رغباتها وبمقابل أقل، وتبدو هي المنتصرة في كل الجولات السابقة وما يمكن الانتباه له هو أن استخدام سياسة ما يمكن توصيفها بالمطرقة والسندان عندما يتم الضغط على طرف بعينه من كلا الطرفين كلاً حسب قدراته، فمثلاً روسيا وتركيا تضغطان على قوات سوريا الديمقراطية من خلال التلويح بالعمل العسكري، وبموازاة ذلك يتم إطلاق تصريحات تشير إلى أن خارطة الطريق التي يتوافق عليها الأطراف هي تسليم الأرض والمكتسبات للدولة السورية وهو الذي يبدو مخططاً له ومدروساً وقابلاً للتطور في سبيل تحقيقه، والمثال الآخر في إدلب حين تسلم تركيا إدلب لهيئة تحرير الشام ثم التوافق مع الروس على ما يسمى بمحاربة الإرهاب يرسم سيناريو عملية عسكرية مرتقبة في إدلب.

كل ما سبق يسير وسط صمت الولايات المتحدة الأمريكية، التي تراقب مسألة التفاوض بين روسيا وتركيا على الملف السوري، هذا الموقف يبدو كجزء من عملية ضبط الأمور العالقة بين الغرب وروسيا ومنعها من الخروج عن السيطرة.

السياسة الدولية عموماً تبدو أنها تسير نحو عسكرة القضايا وحلها بالسلاح أكثر من السياسة، ففي عدة بقاع بدأت سياسة الفوضى الخلاقة تتوسع لتشمل مناطق أوسع ومنها استفزاز الصين التي بدأت تهدد تايوان عبر مناوراتها العسكرية، وفي غزة تشن إسرائيل عملية أخرى، وقد تشتعل الحرب مجدداً بين أرمينيا وأذربيجان، كل ذلك قد يمهّد لحدوث حرب أكبر وأشمل أو تبلور القطبية العالمية المتعددة بشكل واضح المعالم ووضع خارطة طريق لكل القضايا على رأسها قضية الشرق الأوسط، قد تمنح فرصة للشعوب لنيل حقوقها المسلوبة أو فرصة لتطبيق مزيد من التسلط والاضطهاد عليها.

زر الذهاب إلى الأعلى