شرق المتوسط والصراع على مصادر الطاقة

شرق المتوسط والصراع على مصادر الطاقة

بعد اكتشاف حقل تمار من قبل إسرائيل في عام 2009م، بات شرق المتوسط محور اهتمام القوى الإقليمية والدولية الأمر الذي أدى إلى تصاعد التنافس في تلك المنطقة، وما زاد الاهتمام بها أكثر تداعيات الحرب الروسية- الأوكرانية وما تبعتها من انعكاسات على واردات الغرب من الغاز الروسي، حيث بات الهدف الرئيسي للغرب تنويع مصادر الواردات من الغاز لتخفيف الاعتماد على الغاز الروسي الذي بات العامل المؤرق للغرب لا سيما مع تدهور العلاقات الغربية – الروسية في الآونة الأخيرة وارتفاع أسعار الطاقة. إلا أن حجم احتياطي الغاز المكتشف في تلك المنطقة لا يمكن مقارنته باحتياطي الغاز في روسيا أو قطر لكن قرب غاز شرق المتوسط من أوروبا جعلتها محط انظار الغرب، حيث بدأت ” الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ” تجد لنفسها موطئ قدم لها عن طريق الشركات لضمان أمنها “الاقتصادي” ومصالحها الاستراتيجية. من هنا بدأت دول شرقي المتوسط بترسيم الحدود البحرية فيما بينها كي تلعب دوراً في سوق الطاقة العالمية.
تكمن المشكلة الأساسية في ترسيم الحدود البحرية في شرقي المتوسط إلى وجود خلافات عميقة في المنطقة تجعلها بؤرة صراع مستقبلية، والحقيقة إن المشكلة تكمن بتركيا التي لها خلافات مع جميع دول شرقي المتوسط بدون استثناء الخلافات التركية اليونانية والخلافات التركية القبرصية والخلافات التركية السورية والخلافات التركية الإسرائيلية والخلافات التركية المصرية. إلى جانب وجود خلاف بين إسرائيل ولبنان حول ترسيم الحدود البحرية في المنطقة البحرية المتنازع عليها بين البلدين بعد اكتشاف حقل كاريش. ولأن معظم الغاز المكتشف حتى الآن في المثلث الإسرائيلي القبرصي المصري ولأن تركيا تحتل الجزء الشمالي من قبرص غير معترف بها دولياً فأنها لا تعترف باتفاقات الحدود البحرية التي أبرمتها قبرص مع مصر وإسرائيل، ومن أجل عرقلة أي مشاريع أقدمت تركيا 2019 إلى ترسيم الحدود البحرية مع حكومة الوفاق الليبية والتي خلقت أزمة جديدة مع مصر واليونان بشكل خاص، وتعطيل عمليات تطوير الغاز في المستقبل، بما في ذلك خطّ أنابيب يمتدّ من شرق المتوسّط عبر اليونان، ليصل إلى إيطاليا ورداً على ذلك في2020 وقعت مصر واليونان اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين البلدين وتعيين المناطق الاقتصادية الخالصة بين مصر واليونان
في أكتوبر 2018، عُقدت على جزيرة كريت اليونانية قمة ثلاثية جمعت الرئيس القبرصي والرئيس المصري ورئيس الوزراء اليوناني، تم الاتفاق فيها على إنشاء منتدى غاز شرق المتوسط، يكون مقره القاهرة، ويضم الدول المنتجة والمستوردة للغاز ودول العبور بشرق المتوسط، بهدف تنسيق السياسات الخاصة باستغلال الغاز الطبيعي بما يحقق المصالح المشتركة لدول المنطقة، ويسرّع من عملية الاستفادة من الاحتياطيات الحالية والمستقبلية من الغاز بتلك الدول. وفى إطار ذلك حاولت أنقرة التدخّل عبر أنشطة تنقيب غير شرعية في المياه القبرصية المعترف بها دوليًا، ورداً على ذلك أنشأت إسرائيل ومصر والأردن واليونان وإيطاليا والسلطة الفلسطينية “منتدى غاز شرق المتوسّط” (EMGF)، واجتمع الأعضاء للمرّة الأولى، أوائل عام 2019. ومع اعلان بوتين الحرب على أوكرانيا وحاجة الغرب إلى الغاز ازدادت أهمية الغاز في شرقي المتوسط ففي 15/6/2022 افتتح أعمال منتدى غاز شرق المتوسط حيث شهد الاجتماع حضورًا دوليًا رفيع المستوى من وزراء ورؤساء وفود الدول الأعضاء الدائمين من قبرص واليونان وإسرائيل وإيطاليا وفرنسا وفلسطين والأردن، بالإضافة إلى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والبنك الدولي بصفة أعضاء مراقبين، بالإضافة إلى مفوّضة الطاقة والمناخ بالاتحاد الأوروبي والأمين العامّ للمنتدى أسامة مبارز. وركزت كلمات المتحدثين في الاجتماع الوزاري على أهمية دور منتدى غاز شرق المتوسط في دعم دول الاتحاد الأوروبي خلال أزمة الطاقة التي تأثرت بشدة من جراء الحرب الروسية الأوكرانية. لا شك أن هناك تنافس غير مباشر بين دول شرقي المتوسط حول مركزية نقل الطاقة إلى أوروبا وبالأخص بين تركيا ومصر وحتى إسرائيل.

فتركيا تحاول أن تكون مركزاً إقليمياً لنقل الطاقة إلى أوروبا، حيث أشار أردوغان إلى أن ضخ الغاز الطبيعي من حقول شرق المتوسط إلى أوروبا لا يمكن أن يتم إلا عبر الأراضي التركية. فقد استغل أردوغان الأزمة الليبية لخدمة مشاريعه في المنطقة ونتيجة العلاقة القوية التي تربط أردوغان بجماعة الإخوان ومنها حكومة الوفاق الليبية تم التوقيع على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بينهما. إلا أن هذا الترسيم لم يحظى بموافقة الدول المتوسطية.
إن هدف أردوغان من الاتفاقية يأتي لقطع الطريق أمام أي مشروع يهدف لنقل الغاز إلى أوروبا. وحتى لا تصبح تركيا معزولة عن محيطها وعن المشاريع الاقتصادية التي تنتظر المنطقة، تحاول الوصول الى تفاهمات مع إسرائيل بما يتعلق باستثمار الغاز في شرق المتوسط ونقله الى أوروبا لكن حتى الان ترفض ذلك، حيث رد مكتب الرئيس الإسرائيلي بأن إسرائيل لن تتعاون مع تركيا على حساب اليونان وقبرص. كما تحاول التودد لمصر لتوقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية. إن أي اتفاقي ترسيم الحدود سواء مع إسرائيل أو مصر هو اعتراف بشرعية تركيا على الجزء الشمالي لقبرص غير معترفة بها دولياً سوى من الجانب التركي. وضمن هذا السياق وقّعت مصر وإسرائيل والاتحاد الأوروبي مذكرة تفاهم في القاهرة تهدف الى تصدير الغاز إلى أوروبا، في محاولة لإيجاد بدائل للوقود الروسي في ظل استمرار الحرب في أوكرانيا. ويهدف التعاون إلى نقل الغاز الطبيعي من إسرائيل إلى أوروبا بعد تسييله في المحطات المصرية المعدة لذلك. وفي حين لم تعلن أطراف الاتفاقية قيمة الصفقة، التي من المنتظر أن تعوض نحو 10% من الغاز الروسي إلى أوروبا.
في ظل هذه الترتيبات الجديدة، فإنّ شرق المتوسط يُواجه محاولات لإعادة صياغة سياسات استراتيجية وفق ما يُعرَف بجغرافيا الطاقة، فإضافة إلى تنافس الدول الواقعة على أطرافه، وسعي دول أخرى إلى عقد تحالفات على عدة محاور لضمان مصالحها الاستراتيجية، كالولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وفرنسا، وتركيا عبر أنشطتها الاستفزازية حول التنقيب عن الغاز في شرقي المتوسط وخلافاتها الكثيرة مع دولها، ومع تنامي أزمة الطاقة عالمياً نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية قد نشهد تحركات إقليمية أو حتى دولية قد تؤدي إلى تحالفات جديدة اقتصادية او عسكرية من شأنه أن يتحول شرق المتوسط إلى مركز للصراع من وزن جديد في ظل وجود خلافات بين دول شرقي المتوسط والأزمات الإقليمية وتضارب المصالح والأهداف.

زر الذهاب إلى الأعلى