العلاقات الروسية التركية بين التكتيك والاستراتيجية

تُعدّ العلاقات الروسية – التركية تاريخية وعلى أعلى المستويات السياسية والاقتصادية، ويُعتبَر التبادل الاقتصادي من أهم الجوانب التي تهمّ البلدين، وقد صرّحت بعض المؤسسات الاقتصادية في البلدين أنّ هذا التبادل تجاوز 30 مليار دولار أمريكي، وبعد توقيع الطرفين على خارطة طريق للتعاون الاقتصادي في آب من العام 2022م هناك توقّعات بأن يصل هذا التبادل إلى 100 مليار دولار أمريكي مستقبلاً، أمّا بالنسبة للعلاقات السياسية والعسكرية فتمتدّ إلى نهاية القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر، والتي كانت في معظم مراحلها علاقات عدائية تجلّت في الحروب الروسية التركية، وذلك لرغبة روسيا في السيطرة على دول البلقان والمنافذ الحدودية المشتركة والمضائق والممرّات المائية، خاصة مع تدهور الإمبراطورية العثمانية في فترة احتضارها قُبَيل الحرب العالمية الأولى، وتخندق الجيش الإنكشاري في صف دول المحور ضدّ دول الحلفاء التي كانت تضم روسيا والتي ستقود دول الاتحاد السوفيتي فيما بعد.

 انضمام تركيا الحديثة إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) عام 1952م كان بمثابة تحديد التموضع الاستراتيجي لها، فكان حلف وارسو بمثابة القوة والتحالف العسكري الموازي والمواجه لهذا الحلف، والذي ستتّضح معالمه فيما بعد في تحديد مكامن القوة والضعف والمواجهة.

تفكّك الاتحاد السوفيتي وبدء علاقات جديدة:

بعد تفكّك الاتحاد السوفيتي عام 1991م بدأت العلاقات ما بين روسيا الاتحادية وتركيا بالتحسّن، خاصةً على المستوى التجاري؛ حيث نشطت التجارة ما بين الدولتَين وعلى أعلى المستويات في تبادل الخبرات والمعلومات، كما أصبحت روسيا أكبر مزوّد للطاقة بالنسبة لتركيا، ولكن رغم ذلك فإنّ الرؤية السياسية للدولتين كانت بعيدة كل البعد عن بعضهما، وخاصةً في الأمور الاستراتيجية، ويمكن ملاحظة ذلك في الملفّات الشائكة المشتركة بين الدولتين، وأبرزها:

على صعيد الملف السوري: مع بداية الحراك السوري عام 2011م وبدء شرارة الثورة السورية بدأت سياسة التكتّلات السياسية، فرغم تطوّر العلاقات ما بين الدولتَين في السنوات الأخيرة، وزيادة حجم التبادل التجاري وتنشيط حركة المعابر الحدودية، إلّا أنّ تركيا قد كانت من الدول السبّاقة في التدخّل في الشؤون الداخلية للدولة الجارة، حيث تبنّى النظام التركي سياسة الدعم المباشر للحركة الإخوانية في سوريا، ومن ثم الحركات الإسلامية الراديكالية (أحياناً بشكل مباشر وأحياناً أخرى بشكل غير مباشر) وكل ذلك لإسقاط نظام الحكم في سوريا وإيصال الجماعات الإسلامية لسدّة الحكم فيها، فيما كان التوجّه الروسي هو إبقاء هذا النظام على ما هو عليه، وبعد التدخّل العسكري لدول التحالف ضدّ المنظّمات الإرهابية في سوريا أصبحت الأجواء السورية مفتوحة أمام العنصر الروسي كي يصول ويجول على الأراضي السورية وذلك بالتدخّل العسكري المباشر، ولتصبح الساحة السورية وأراضيها ميدان المواجهة والاحتكاك المباشر ما بين الدولتين، وفعلاً تم اسقاط طائرة روسية من طراز سوخوي 24 من قبل الدفاعات الجوية التركية ضمن الأجواء التركية في 24 تشرين الثاني 2015م؛ ولتتوتّر العلاقات فيما بينهم على أثرها، وكردّ فعل على ما حصل في حلب وسقوطها بيد النظام السوري وطرد المسلّحين الموالين للمعارضة السورية منها، وما “زاد الطين بلّة” هو اغتيال أو قتل السفير الروسي في أنقرة يوم 19 كانون الأول من العام 2016م من قبل الإسلاميين المتشدّدين، كل هذه الأسباب بالإضافة الرؤية المتضادّة ما بين النظرة الروسية والتركية إلى سبل حلّ المسألة السورية كانت من ضمن التناقضات بين الطرفين.

على صعيد الملفّ الليبي: بدأ التدخّل التركي في ليبيا بشكل مكشوف؛ وذلك من خلال الدعم المباشر لجماعة “فايز السرّاج” لوجستياً وسياسياً وحتى عسكرياً، في حين كانت روسيا تدعم جماعة بنغازي المتمثّلة بـ “خليفة حفتر”.

على صعيد ملفّ القوقاز: تركيا تدعم أذربيجان بشكل علني، في حين أنّ روسيا تدعم أرمينيا رغم التخلّي الأخير عنها؛ وذلك بسبب مساومات وتفاهمات جانبية متعلّقة بشمال غرب سوريا.

على الصعيد المصري: تُعتبَر روسيا من أكبر داعمي الرئيس السيسي، في حين كانت تركيا تتبنّى سياسة دعم جماعة الإخوان المسلمين والمطالبة بإرجاعهم إلى الحكم المدني المنتخَب، وتسمية وصول عبد الفتاح السيسي للحكم بـ “الانقلاب العسكري”.

على الصعيد الأوكراني وحربها الدائرة: بما أنّ تركيا هي دولة ضمن حلف الشمال الأطلسي (الناتو)، ويُعتبَر جيشها ثاني أضخم جيش فيه، فهي مُلزَمة بتبنّي السياسة العامة للحلف، وعليه فإنّ تركيا تُعتبَر عملياً ضدّ الحرب الروسية في أوكرانيا، ولكن رغم ذلك فقد شكّلت تركيا لنفسها مساحة لا بأس بها للوقوف في زاوية محايدة (نوعاً ما) وتلعب دور الوسيط القوي في معظم الأحيان، كما جرت الأمور في صفقات تصدير الحبوب الأوكرانية لبعض دول العالم، وتسليم الروس قادة أوكرانيين لتركيا كوسيط معتمَد على أن يتمّ تسليمهم لأوكرانيا بعد انتهاء الحرب، لكنّ تركيا قامت بتسليمهم خلال الزيارة الأخيرة للرئيس الأوكراني لتركيا، ممّا خلق نوعًا من الامتعاض من الجانب الروسي والذي تداركته تركيا فيما بعد، كما أنّ الموافقة الأخيرة من الجانب التركي على انضمام كلّ من السويد وفنلندا إلى حلف الناتو قد عكّرت من صفو العلاقات الثنائية، ولكن بسبب الوساطة التركية وعدم وجود بديل مناسب لها في لعب دور الوسيط مع أوكرانيا والغرب، فإنّ الروس ينظرون بعين الاعتبار إلى هذا الدور المحوري ويأخذونه بعين الاعتبار.

لماذا تتبع روسيا سياسة مرنة تجاه تركيا؟

رغم إسقاط الطائرة الروسية في سوريا من قبل تركيا، ومقتل السفير الروسي في أنقرة كما ذكرنا سابقاً، إلا أنّ العلاقات ما بين روسيا وتركيا قد عادت إلى شكلها شبه الطبيعي في وقتٍ قياسي، وتمّت إزالة التوتّرات والخلافات فيما بينهم، وذلك لعدّة أسباب تهمّ الطرفَين، ويمكن تلخيصها فيما يلي:

– بالنسبة لروسيا فإنّ تركيا تُعتبَر دولة إقليمية ذات وزن دبلوماسي، ويمكن الاعتماد عليها في الكثير من الملفّات كي تلعب دور الوساطة أو التواصل غير المباشر مع الغرب.

– بالنسبة للسياسة الروسية بشكل عام، فهي محاولة لتحييد تركيا في صراعها مع القوة الغربية.

– إمكانية الاستفادة اقتصادياً من الشراكات مع تركيا للالتفاف وإيجاد الثغرات في العقوبات الاقتصادية الغربية على روسيا.

– الاحتكاك الاقتصادي المباشر مع قوة عسكرية فعّالة ضمن حلف الشمال الأطلسي (الناتو) وإمكانية الاستفادة من هكذا احتكاك.

– استدامة الاستفادة من مشروع “التيّار الأزرق” وهو مشروع مدّ خط أنابيب الغاز الطبيعي العملاق من روسيا إلى تركيا مروراً بالبحر الأسود.

– محاولة روسيا استمالة تركيا إلى مشروع “اتّحاد الأوراس” كبديل عن الاتّحاد الأوربي.

ما الذي تريده تركيا من روسيا؟

تركيا وبعد مفاوضاتها المستمرّة مع الاتّحاد الأوروبي وعدم الوصول إلى المطلوب تحاول فتح قنوات مقابلة أو موازية مع الأقطاب الأخرى والمتمثّلة بروسيا، خاصةً أنّ روسيا بوتين تحاول منذ مطلع القرن الحالي كسر سياسة القطب الواحد، وكسر الصورة النمطية لـ “شرطيّ العالم” المتمثّل في الولايات المتحدة الامريكية، وعليه فإن التعاون الاقتصادي والعسكري مع هذا الطرف سيكون ورقة ضغط وعمليات مساومة لتركيا في مواجهة الغرب، وأيضاً سيكون جزءًا من سياسة خلق التوازن ما بين القوى التي تدير العالم. كذلك يمكن تحديد الأهداف التركية في:

– تحييد الرأي الروسي في الصراع مع الكرد في الداخل التركي، وأيضاً في الداخل السوري والمتمثّل في الإدارة الذاتية الديمقراطية وقوات سوريا الديمقراطية.

– تحييد الدور الروسي في الصراع الأذربيجاني – الأرمني؛ وقد تبيّن ذلك جلياً في السكوت الروسي خلال الصراع الأخير فيما بينهم والانسحاب الأرمني من الأراضي الأذرية.

– الحدّ من التبعية التركية الاقتصادية للغرب، وخلق بدائل عنها بالتعاون الاقتصادي مع روسيا والصين ومن يدورون في فلكهم.

العلاقات في المجال العسكري:

تعدّ تركيا ثاني أضخم جيش في حلف الشمال الأطلسي (الناتو)، وهذا الحلف يُعتبَر الخطر الأعظم على روسيا الاتحادية (من وجهة نظر روسيا)، وعليه فإنّ أيّ تقارب روسي – تركي في المجال العسكري يشكّل خطرًا مزدوجًا على الطرفين، أمّا المعضلة التي أوقع الرئيس التركي الحالي نفسَه فيها فهي شراء منظومة الدفاع الروسية المتمثّلة في صواريخ (إس 400) الروسية الصنع والتي تُعتبَر المضادّ الفعلي للطائرات الأمريكية من الطرازين (إف 16) و (إف 35)، فالإشكالية التي وُضعت أمامها تركيا هي أن تمتلك السلاح الأمريكي وفي نفس الوقت السلاح الروسي، اللذَين يُعتبران متضادّين من حيث المبدأ والمضمون، أمّا في ميزان التحالفات الإستراتيجية فلا يمكن أن يكون هناك تحالف إستراتيجي ما بين روسيا وتركيا؛ وذلك لعدّة أسباب أهمها:

– تركيا شريك أساسي للناتو، والتي تعتبرها روسيا تحالفاً خطراً عليها.

– روسيا شريك أساسي مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، والتي تُعتبَر منافساً إقليمياً لتركيا على الصعيد التاريخي في التنافس الفارسي – العثماني، وعلى الصعيد العقائدي الشيعي – السنّي.

– توتّر العلاقات التركية مع الغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً؛ بسبب الملفّات المتضادّة بينهم، وفي مقدّمتها الملف السوري ودعم قوات التحالف الدولي لقوات سوريا الديمقراطية في مواجهة الإرهاب.

– الهدف التركي في الوصول إلى العضوية الكاملة لمنظمة دول شنغهاي للتعاون.

– شعور تركيا بأن الغرب لا ينظر إليها كحليف أو شريك إلّا عند الضرورة، واستغلالها حسب الحاجة الغربية فقط دون النظر للمصالح المتبادَلة أو أخذ الشخصية التركية بعين الاعتبار.

في النتيجة والمحصّلة النهائية؛ فإنّه يمكننا القول بأنّ العلاقات الروسية التركية هي نتيجة تلاقي مصالح مرحلية تمرّ بها المنطقة والسياسات الدولية الحالية، والتي ربّما تخلق نوعاً جديداً من التحالفات، كما أنّ العلاقات الشخصية ما بين قادة البلدَين تلعب -إلى حدّ ما- دوراً كبيرًا في توطيد العلاقات فيما بينهم، والتي ربّما تتطوّر أو تطول أكثر ممّا يتوقّعه بعضهم، وفي كل الأحوال وبما أنّه لا توجد مواجهة مباشرة ما بين روسيا والناتو (والتي هي مستبعدة في الوقت الحالي) فإنّ هذه العلاقة ستستمرّ ما بين الاثنين، ولكن في كل الأحوال فإنّنا لا نرى فيها على المدى المتوسّط أو البعيد كتحالف استراتيجي، بل على أن يكون نوعاً من الانقلاب على الإستراتيجية التركية في الابتعاد عن التحالفات الغربية وعلاقاتها البعيدة المدى.

زر الذهاب إلى الأعلى