السياسة الروسية في سوريا

بعد أن وصل النظام لمرحلة الضعف والانهيار تدخلت روسيا بشكل مباشر في سوريا ولم يكن هدفها الرئيسي حماية النظام بل حماية أمنها القومي ولفرض إملاءاتها على النظام، حيث تمكنت من بسط هيمنتها العسكرية والاقتصادية بشكل تدريجي على مناطق النظام فوضعت يدها على قاعدة طرطوس البحرية وأنشأت قاعدة حميميم الجوية والتي تعتبر الآن من أكبر قواعدها العسكرية في سوريا، ولم تكتفِ روسيا  بذلك بل وضعت يدها على ثروات سوريا من غاز ونفط وفوسفات وعلى الموانئ والمطارات السورية وعلى الصعيد السياسي فقد تم تعين مبعوث خاص لها ” مندوب سامياً” في دمشق. على الرغم من جني روسيا ثمارها العسكرية في سوريا، إلا أنها لم تتمكن من جني ثمارها الاقتصادية والسياسية بشكل كامل، ويعود ذلك إلى وجود قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة بقوة في شمال وشرق سوريا والاجماع الدولي على الحل السياسي وفق القرار الدولي 2254 ويضاف إلى ذلك العقوبات المفروضة على النظام السوري وأخيراً دخول قانون قيصر من حيز التنفيذ ومن جانب آخر الوجود الإيراني في سوريا ومشروعها التوسعي والوصول إلى البحر المتوسط من خلال السيطرة على طريق بغداد دمشق بيروت، والمخاوف الإسرائيلية من التمدد الإيراني في سوريا ولبنان كلها تمنع روسيا من جني ثمارها الاقتصادية والسياسية في سوريا.

ولإحكام سيطرتها على كامل الجغرافية السورية استغلت روسيا الانسحاب الجزئي للولايات المتحدة من شمال وشرق سوريا، فبعد أن كانت مناطق الإدارة الذاتية تحت النفوذ والسيطرة الأمريكية الكاملة، نجحت موسكو في استغلال التحولات الأخيرة التي رافقت انسحاب القوات الأمريكية من بعض المواقع  خاصة المناطق الحدودية مع تركيا مع بدء الاجتياح التركي الأخير9/10/2019 لمناطق كري سبي وسري كانية، من أجل وضع قدم لها في تلك المناطق الغنية بالنفط والمحاصيل الزراعية والواقعة على طريق M4  الاستراتيجي. حيث بدأت روسيا بالتمدد في المنطقة وإقامة قواعد عسكرية جديدة في المنطقة كمطار قامشلو وغيرها من القواعد الأمريكية التي تحولت إلى قواعد عسكرية روسية بعد الانسحاب الأمريكي منها وآخر القواعد العسكرية الروسية التي تسعى إلى إنشائها في قرية قسر ديب شمال غرب ديرك وفرض أمر الواقع على الولايات المتحدة وتركيا، ويأتي هذا التمدد ليس من أجل وقف الاجتياح التركي للمنطقة، فعفرين أكبر مثال على ذلك حيث انسحبت روسيا من عفرين وفتحت الطريق للجيش التركي ومرتزقتها لاحتلالها على الرغم من قدرة روسيا على منع تركيا لكن من أجل تحقيق أهدافها منحت الضوء الأخضر لتركيا، فتواجد القوات الروسية لا يعني بالضرورة حماية المنطقة من الاطماع العثمانية. فروسيا تهدف من خلال تثبيت اقدامها أكثر في هذه المنطقة إضعاف النفوذ الأمريكي، خاصة أن الولايات المتحدة أعلنت عدة مرارات نيتها الانسحاب من سوريا، كما وتهدف إلى إضعاف قوات سوريا الديمقراطية من خلال محاولتها إنشاء ميليشيات لها في المنطقة، وضمن هذا السياق تعمل روسيا على تمزيق أوصال المكونات المتعايشة في المنطقة من خلال فتنة بين هذه المكونات ومنع العشائر المتبقية العمل تحت مظلة قوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية وتخلت عن وعودها كوسيط سياسي في المفاوضات بين الإدارة الذاتية والنظام، وإن فتح روسيا باب التجنيد للقتال في ليبيا له أبعاد غامضة ستؤثر بشكل سلبي على المنطقة. لكن على الرغم من الدور السلبي الذي تلعبه روسيا في مناطق الإدارة الذاتية وعدم قيامها بدورها كضامن حقيقي بين الإدارة الذاتية والنظام وفي تقريب وجهات النظر بين الطرفين وأمام الصراع الدولي في الأزمة السورية وعلاقاتها مع تركيا “التي هي عضو في حلف الناتو” في سوريا، فأن المصالح الروسية في سوريا ستقع ضمن دائرة الخطر في المستقبل في حال تم حدوث أي تغيير سياسي في سوريا خارج السيطرة الروسية نتيجة تداعيات قانون قيصر والأطماع التركية باحتلال الشمال السوري والسياسة الغربية في سوريا.

أما العائق الثاني فهو إيران على الرغم من كون إيران حليفة روسيا في سوريا إلا أن أهدافهما متضاربة، فروسيا تحاول الحفاظ على مصالحها بالدرجة الأولى وتعويض التكلفة العسكرية في سوريا والسيطرة على القرار السياسي فيها مع الحفاظ على الأمن القومي الإسرائيلي, وهذا ما يتعارض مع الأهداف الإيرانية في سوريا والتي تكمن في الحفاظ على تمددها الشيعي من خلال ارتباطها العضوي مع النظام السوري وهذا ما يضع روسيا في موقف حرج على صعيد علاقاتها مع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية لذلك تغض النظر عن القصف الإسرائيلي للمواقع الإيرانية في سوريا، لذا تعمل روسيا على إضعاف النفوذ الإيراني في سوريا من خلال إضعاف حلفائها السياسيين والعسكريين في النظام السوري وإبعادهم عن مفاصل الحكم والقرار السياسي فيها، فالخلافات التي ظهر ضمن الدائرة الضيقة للنظام الأسد وتهديد رامي مخلوف لرأس النظام تفيد بهذه الحقيقة وهذه الخلافات ظهرت نتيجة الضغط الروسي على بشار الأسد. كما أن نفي الكرملن رغبة روسيا بتغيير النظام ولتفادي قانون قيصر وتطبيق قرار 2254 من أجل البدء بإعمار سوريا، لم تكن مجرد إشاعات بل قوبلت برفض إيراني كبير وما زيارة وزير خارجية إيران إلى دمشق ما هي إلا رسالة ودليل على وقوف إيران إلى جانب رأس النظام كون رأس النظام هو صمام الأمان للنفوذ الإيراني في سوريا. مما أجبرت روسيا على تغيير سياستها وتعيين مبعوث خاص لها ألكسندر يفيموف في دمشق لفرض المزيد من الهيمنة, كما وتعمل روسيا على تقليص النفوذ العسكري الإيراني في جنوب سوريا والبادية السورية بحجة الأمن القومي الإسرائيلي وإرضاء للولايات المتحدة الأمريكية.

وعلى صعيد العلاقة الروسية التركية فتركيا باتت لا تشكل أي تهديد أو عائق أمام الأطماع الروسية في سورية سوى ملف إدلب وطريق M4  الذي يشكل أهمية استراتيجية كبيرة في السياسة الروسية للتمدد الاقتصادي في الشرق الأوسط والتي يمكن لروسيا وتركيا الوصول إلى حل سياسي فيها طالما بقيت تركيا مرتبطة بروسيا في الصراع السوري.

هذا وتستغل روسيا قانون قيصر لزيادة نفوذها بشكل أكبر وجعل سوريا مستعمرة روسية حيث وقع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مرسوماً يقضي بإجراء وزارتي الدفاع والخارجية في حكومته مفاوضات مع نظام الأسد للحصول على منشآت ومواقع برية ومائية إضافية، بهدف توسيع القاعدتين العسكريتين الروسيتين في سوريا، كما أن بروتوكول 1 الموقع بين روسيا والنظام في 26/آب/2015  يمنح روسيا امتيازات سياسية وعسكرية واقتصادية كبيرة في سوريا. ولتكون سوريا مستعمرة روسية وتنجح في ذلك لابد من السيطرة على القرار السياسي بشكل كامل وعلى الاقتصاد السوري وهذا يتطلب تغيير النظام كونه اصبح يشكل عائقاً أمام إيجاد أي حل سياسي في سوريا،  كون جميع محاولات روسيا لإيجاد حل في سوريا بائت بالفشل بسبب رفض المجتمع الدولي وخاصة الولايات المتحدة أي حل يكون النظام طرف فيه، ولتكتمل دائرة السيطرة التي تسعى روسيا إليها تسعى إلى إضعاف الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا وقوتها العسكرية المتمثلة بقوات سوريا الديمقراطية، نظراً لكون هذا المسعى الروسي في إضعاف الإدارة الذاتية وتمزيق مكونات المنطقة يخدم التقارب الروسي التركي أكثر، وهذا ما يجعل السياسة الروسية تدخل مرحلة مسدودة بسبب وجود إدارة قوية على الأرض بالإضافة إلى تواجد قوات التحالف الدولي  في المنطقة وهيمنة الولايات المتحدة على الحل السياسي في الأزمة السورية.

زر الذهاب إلى الأعلى