سوريا الجديدة والنموذج الإسلامي الجديد
سقط بشار الأسد وبسقوطه أعلن حزب البعث تعليق نشاطه، هذا الحزب الذي حكم سوريا لمدة واحد وستين عاماً بالحديد والنار بسبب أيديولوجيته المتزمّتة للعروبة، رغم أنّه لم يكن يوماً ما لا في الحضن ولا في الصف العربي، خاصةً بعد استلام حافظ الأسد للحكم بعد انقلاب عسكري في البلاد والبدء بتصفية رفاقه الذين كانوا يخالفونه الرأي، وترسّخت هذه السياسة أو النهج مع مرور الوقت حتى وصلت للابن بشار الأسد الذي وصل إلى سدّة الحكم على عجل، فلم يكن التحضير على أكمل وجه كما أراده والده والحرس المحاط به، ولكن الظروف الإقليمية والدولية والمعارضة السورية غير المنظَّمة قد ساعدته في استلام السلطة بسلاسة إلى حدّ ما. حاول بشار الأسد إجراء التغيير وطرح أفكار جديدة وتغيير الأشخاص من المحاطين به من مخلّفات والده، إلّا أنّ الاحداث المتسارعة في العالم مثل أحداث الحادي عشر من أيلول في الولايات المتحدة الأمريكية، وما تبعتها من حرب على أفغانستان، وإسقاط نظام الحكم في العراق، وخاصةً انتفاضة الكرد في آذار من عام 2004م وما قابلها من عنف مفرط وسحقها بكل تلك الوحشية؛ كلّ ذلك قد كشف الوجه الحقيقي لهذا النظام واستحالة قيامه بالتغيير. هكذا سرت الأمور حتى بدأ ما عُرف بالربيع العربي الذي انطلق في سوريا في الخامس عشر من آذار سنة 2011م، لتواجه نفس مصير الثورة الكردية سابقاً في ٢٠٠٤ لتواجَه بالكثير من العنف، وليثبت النظام بذلك أنّه لا يفهم إلّا بلغة القوة والعنف.
إضاعة الكثير من فرص الحلّ السياسي والدبلوماسي:
بعد أن أصبحت الثورة أو الأزمة السورية حقيقة واضحة للعلن في الداخل والخارج، وبعد أن استمرّت لأكثر من ستة أشهر بشكلها السلمي، لم يستوعب النظام (بل الصواب أنّه لم يكن يريد أن يستوعب) إمكانية إيجاد حلّ سلميّ حقيقيّ، وكذلك لم يكن يريد محاورة الشعب والاستماع لمشاكله واحتوائها بالشكل المناسب، بل على العكس من ذلك؛ فقد زاد من وتيرة العنف الذي أدّى إلى توليد عنف مضادّ في المقابل، فبدأ الضباط وعناصر الجيش السوري بالانشقاق وتشكّل ما بات يُعرَف بالجيش السوري الحرّ، والذي كان بدوره نوعًا من التشجيع لدخول مجموعات مسلّحة أخرى، وبالتالي؛ البدء الفعلي لمرحلة الفوضى على جميع الأراضي السورية، وبطبيعة الحال، ولقربها الجغرافي، فقد كانت تركيا من أوائل المتدخّلين سلباً في هذا الشأن.
مع تزايد حالة الفوضى وإراقة مزيد من الدماء وتأخّر المجتمع الدولي عن التدخّل، بدأت الهوة بالاتساع وزاد الشرخ ما بين النظام والمعارضة، وبالتالي؛ تضاءلت فرص الحلّ السياسي وتوجّهت الأمور نحو الأسوأ، وهو ما كان متوقّعاً أو كان ذلك هو المراد له أن يكون أساساً، وخاصةً بعد دخول فصائل جهادية وإسلامية راديكالية على الخط، مثل تنظيم القاعدة بأفرعه وتشعّباته وأجنحته …إلخ. كلّ ما سبق كان دعوة صريحة ومباشرة للتدخّلات الدولية ونسف كلّ ما سبق وما سيأتي من اتفاقيات مؤقّتة وتكتيكية.
نموذج الإسلام المتشدِّد المنغلق بديلاً عن الإسلام السياسي المعتدِل:
إنّ طرح خارطة الشرق الأوسط على منحيَين مختلفَين من قبل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في احدى جلسات الأمم المتحدة، وتسميته إحداها بخارطة النعمة وتسمية الأخرى بخارطة النقمة لم يأتِ من فراغ، رغم أنّها كانت مختلفة تماماً عن مشروع الشرق الأوسط الجديد أو الكبير المطروح أمريكياً منذ عام 2006م عندما رأى النور بعد طرح وزيرة الخارجية آنذاك كونداليزا رايس، فخرائط نتنياهو كانت تحمل نفس التقسيمات السياسية الحالية دون تعديل أو تقسيم للدول القائمة، فما هو مهم في استراتيجيات الغرب بعيداً عن حقوق الأقليات والقيم الإنسانية هو محاربة الإرهاب ومكافحة التمدّد الأخطبوطي لإيران، وقبل كلّ شيء حماية إسرائيل، كل ما سبق ذكره كُلّفت تركيا بتنفيذه عن طريق وصول التيار الإسلامي المعتدل إلى السلطة، وبالتالي؛ الانتهاء من كلّ القوى الراديكالية التي تهدف إلى تحرير القدس ومقاومة الامبريالية وغيرها من شعارات لا تروق لمسامع الغرب وإسرائيل.
بالفعل؛ ومع وصول حزب العدالة والتنمية وبخطوات بطيئة بدأ العمل على هذا النهج وتنفيذ المطلوب، ولكن ما حدث وغيّر من مجريات الأحداث هو ثورات “الربيع العربي” التي بدأت مع نهاية عام 2010م في الشمال الأفريقي والشرق الأوسط، ولم يكن خافياَ على أحد كيف أنّها انطلقت كالنار في الهشيم من تونس فليبيا فمصر فاليمن فسوريا؛ وهو ما أسال لعاب القيادة في تركيا ودفع أردوغان إلى التفكير في أن يصبح رأساً للعالم الإسلامي بدلاً من ان يكون ذيلاً للغرب، وبالتالي؛ خرج عن الخط المرسوم له، ودخلت تركيا في صراع مع جميع جيرانها ومع القوى والبلدان الإقليمية أيضاً، بدلاً من اتباع سياسية “صفر مشاكل”.
ما جرى في سوريا، تحديداً خلال الأسبوعين الماضيين، يشير إلى ارتياح الغرب عموماً والولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص للنموذج الإسلامي الأفغاني (إسلام متشدّد منغلِق غير مؤثر في المحيط ولا حتى يتأثّر به)، وبالتالي؛ خلقه كنموذج جديد بديل عن نموذج الإخوان المسلمين، الذي فشل في كلّ من تونس ومصر، والإسلام السياسي الذي بدأ يفشل في تركيا، ولأنّ إسرائيل قد بدأت تعمل في الشرق الأوسط الجديد كلاعب أساسي ومحوري منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر عام 2023م، والقضاء الفيزيائي شبه النهائي على كل من حركة حماس الفلسطينية وحزب الله اللبناني (الأذرع الرئيسية لولاية الفقيه وإيران)، كان لابدّ من قطع طرق الإمداد الجغرافية فيما بينها أيضاً، فكانت الساحة السورية هي الهدف التالي، وبذلك كان لابدّ من وجود حليف وذرائع في الوقت نفسه لأخذ الأريحية في العمل ضدّ المصالح الإيرانية على الجغرافية السورية، فما يُسمّى بالجيش الوطني خاضع حتى النخاع للهيمنة التركية، وبالتالي؛ وجدت ضالّتها في هيئة تحرير الشام وبعض الفصائل التي تحالفت معها، وربما يكون ذلك بمباركة ودعم مادي سعودي، وذلك بحسب المعطيات والمتابعة الإعلامية المكثّفة من قبل إعلامها والتركيز في الجبهات ومرافقة مراسليها لهم خطوة بخطوة، فقد انهار النظام السوري سياسياً وعسكرياً مع الفصائل الإيرانية، بل يمكننا القول أنّها قد استسلمت نهائياً خلال أحد عشر يوما لا أكثر.
مع سقوط النظام انحلّت نصف المشكلة في سوريا، فماذا عن النصف الآخر؟
مع التقدّم السريع لعناصر هيئة تحرير الشام والفصائل المتحالفة معها تحت مسمّى معركة “ردع العدوان” وسقوط المدن الكبيرة كحلب وحماة، ومع انسحاب المليشيات الإيرانية المتمركزة في سوريا، بالإضافة إلى تصريحات القيادة الروسية الواضحة التي أعلنت عن عدم وجود خطّة واضحة بشأن سوريا، تبيّن أنّ النظام السوري وأجهزته الأمنية قد تم الاستغناء عنهم تماماً من قبل القوة المساندة لها إقليمياً ودولياً؛ وما الهروب المذلّ لبشار الأسد إلّا خير دليل على ذلك، وبذلك يكون قد تم حلّ نصف المشكلة أو المعضلة السورية القائمة، لكن في المقابل ومع غياب القوى الديمقراطية وتسلّط القوى الراديكالية الإسلامية على قيادة مؤسسات الدولة والمجتمع بدأ التخوّف لدى طبقات المجتمع بشكل عام وبكافة أطيافه وأعراقه، خاصةً أنّ هذه القوى لديها سجلّ سابق مليء بانتهاكات لحقوق الإنسان، لكن ما يلفت الانتباه فيما حصل خلال الأيام القليلة الماضية هو أمر مهمّ جداً، ألا وهو المحافظة التامة على المؤسسات والممتلكات العامة، عدا عن بعض التجاوزات هنا وهناك، وهذا يُعتبَر مؤشّراً إيجابياً على الاستجابة المقبولة من جميع الأطراف، لكن مع ذلك؛ فإنّ ما هو مطلوب بالفعل من الذين يقودون أو سيقودون البلاد في قادم الأيام هو عدم تهميش أي مكوّن أو فئة، ويجب إشراك الجميع في قيادة هذه البلاد وإدارتها.
سوريا الجديدة إلى أين؟
من أكبر العقبات التي كانت تواجه الشعب السوري الرافض للنظام السابق وسياساته هو عدم وجود معارضة منظّمة تقف في وجهه أساساً، وإنّما معارضة مرتبطة بأجندات خارجية، فقد كان النظام السوري يتحكّم بالمفاصل الأساسية وغير الأساسية في الدولة ومؤسساتها، حيث عمل على إيجاد هالة خارقة لمؤسساته الأمنية التي كانت تتشكّل من نصف المجمع بشكل أو بآخر، وتوضّحت هذه الصورة، بشكلها الكامل، مع اندلاع الأحداث في الخامس عشر من شهر آذار عام 2011م؛ وذلك بسبب غياب أية خطة أو برنامج واضح لما بعد إسقاط النظام، بل على العكس من ذلك تماماً؛ فقد امتدّت هذه المعضلة حتى يومنا هذا، وما تشهده سوريا منذ الثامن من الشهر الجاري خير دليل على ذلك؛ فحالة الفوضى والفلتان الأمني السائدة في البلاد توكّد عدم وجود أي رؤية مستقبلية للحلّ السوري، ولا تزال قيادات المرحلة الحالية في حالة تخبّط وترقّب لما يمكن استيراده من الخارج. وعليه؛ تتأكّد الصورة يوماً بعد يوم أنّ إسقاط الأسد ومحوره الشيعي في سوريا ما هي إلّا لعبة دولية وإقليمية لبتر أذرع إيران في المنطقة وتقليم أظافرها في المرحلة الحالية التي يمكن أن تنتهي بالقضاء على المحور من جذوره في قادم الأيام، وبحسب المعطيات التي تطفو على السطح من خلال السياسات الدولية ومصالح القوى المهيمنة على العالم حالياً، فإنّ طرح النموذج الأفغاني كبديل عن المعارضة السورية المتفكّكة ربما يكون الخيار الأسوأ للسوريين بجميع أطيافهم، وذلك مع وجود هذا الكمّ الهائل من منصات المعارضة العَلمانية والدينية والتي ترتبط بعضها أساساً بأجندات لدول إقليمية.
قادم الأيام حُبلى بالمفاجآت، والتركيز في سوريا الجديدة سيكون على عدم انجرارها نحو التشدّد، وكذلك الابتعاد عن المركزية الضيّقة؛ فهل ستلملم المعارضة تشتّتها هذه المرّة من خلال عملية إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وكفرصة أو جائزة ترضية أخرى لها لإثبات نفسها على الساحة الوطنية السورية، أم أنّها ستضيّع، كما النظام، الفرصة مرّة أخرى؟