استراتيجية تركيا والقضية الكردية
الهدف الأساسي لتحالف حزب العدالة والتنمية مع حزب الحركة القومية هو وضع شيء في خدمة إبقاء السيطرة التركية على كردستان، وقطع الطريق أمام كل فرصة للشعب الكردي لتحقيق الحرية والسيادة ونيل الحقوق، والقضاء على القضية الكردية وتوسيع حدود الدولة التركية على أساس الميثاق الملّي.
ففي دولة مثل تركيا لا يمكن لأي تحوّلات سياسية أو تشكيل حكومات أن تحدث دون سبب؛ وعلى مستوى عالٍ وفي موضوع أساسي ذي علاقة بتطوّر القضية الكردية، ليس فقط في شمال كردستان، وإنّما في كافة أجزاء كردستان، فعلى سبيل المثال لا الحصر؛ إنّ الانقلاب العسكري بقيادة كنعان إفرن 1980م إنّما كان سببه الرئيسي هو تطوّر حركة التحرّر الكردستانية والتخوّف من تصاعد مستوى القضية الكردية.
لذا؛ فإنّ تولّي حزب العدالة والتنمية مقاليد الحكم في تركيا لم يكن نتيجة فوزه في الانتخابات، وإنّما كان الأمر متعلّقًا بالدولة العميقة وخطّتها في القضاء على القضية الكردية، وكذلك بتوسيع حدود الدولة التركية في منطقة الشرق الأوسط وتحقيق الميثاق الملّي، كما كان ذلك بسبب السياسة الأمريكية ومشروعها في إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط في إطار تطوير الإسلام المعتدل وربط المنطقة بها (أمريكا)؛ من خلال ربط منظمات الإسلام السياسي مع حزب العدالة والتنمية باعتباره حزبًا إسلاميًا مرتبطًا مع حلف (ناتو)، وفي هذا الإطار لجأت تركيا إلى اتّباع سياسة “الكيل بمكيالين”؛ فمع وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدّة الحكم لجأ إلى اتّباع سياسة ضمن إطار المصالحة مع الداخل، والتنمية الاقتصادية، وتعزيز العلاقات مع المحيط، وترسيخ الوجود. أمّا من ناحية أخرى؛ فقد لجأت تركيا إلى اتّباع سياسة تحقيق المصالح القومية على حساب المشاريع الأمريكية، ومن تلك المصالح استعادة السلطنة العثمانية وتحقيق الميثاق الملّي، لذا فإنّه (العدالة والتنمية) قدتعامل مع الكرد على هذا الأساس.
باختصار؛ يمكن القول أنّ خطّة تركيا إزاء الكرد كانت على الشكل التالي: فمن ناحية تقوم تركيا بتحقيق غاياتها في التحوّل لدولة مهيمنة في الشرق الأوسط عن طريق تحييد ودعم وتهدئة القضية الكردية، ومن ناحية أخرى تقوم بتصفية القضية الكردية وتحقيق الميثاق الملّي. فالاستراتيجية التركية كانت على هذين المستويين، لكن؛ كيف استطاعت تركيا تفعيل هذه السياسة “الكيل بمكيالين” إزاء الكرد؟ وإلى إلى أي مدى استطاعت تركيا تحقيق استراتيجيتها؟ وماهي نتائج تلك الاستراتيجية؟
أردوغان والتجربة التاريخية:
إنّ حزب العدالة والتنمية، كحزب إسلامي، إنّما هو امتداد لحزب الرفاه بقيادة نجم الدين أربكان، فقد تأسس عام 2001 بقيادة أردوغان، والأساس الفكري والأيديولوجي الذي نشأ عليه أردوغان هي مدارس (الإمام الخطيب)؛ أي بشكل من الأشكال فكر الإخوان المسلمين، فقد كان منتسبًا إلى حزب السلامة الوطني التابع لنجم الدين أربكان، وبعد حظر هذا الحزب إثر انقلاب 1980م، انتسب أردوغان عام 1983م إلى حزب الرفاه الذي كان تابعاً لأربكان أيضًا، أربكان الذي تولّى منصب رئاسة الوزراء في تركيا منذ 1996- 1983م، وبعد ذلك وعلى أنقاض وميراث نجم الدين أربكان أسّس أردوغان حزبه (العدالة والتنمية) الذي لايزال يقود تركيا منذ عام 2002م.
ما بين علمانية جمهورية أتاتورك والإسلام السياسي هناك تاريخ طويل من الصراع؛ فمنذ إعدام عدنان مندريس 1960م وحتى اليوم يتمّ النظر إلى الإسلام السياسي على أنّه يشكّل خطرًا على الجمهورية، فقد تعرّض مندريس للإنقلاب وتمّ إعدامه منذ أن أبدى بعض المرونة مثل السماح بالأذان في الجوامع باللغة العربية، وتدريس التربية الدينية في المدارس، وبعض التساهلات الأخرى في المجال الديني.
وكذلك فإنّ أربكان، ورغم أنّه منذ أن تولّى رئاسة الوزراء قد سعى لإظهار نفسه كإسلامي غير مختلف مع أتاتورك، كما أظهر نفسه للناتو وأوروبا كشخصية منفتحة، إلّا أنّه لم يستطع إخفاء أحلامه في بناء تركيا إسلامية؛ ولذلك فقد تعرّض لضغوطات من الجيش، وبالتالي فقد أُبعِد عن الحكم، فأردوغان – كتلميذ للإسلام السياسي ولأربكان- قد فهم تفاصيل نظام الجمهورية التركية بشكل جيد؛ لذلك فقد استفاد من تجارب مسار الإسلام السياسي، وتعرّف جيّدا على العقبات والتحدّيات التي اعترضت سبيل ذلك المسار، وسعى لتذليلها، ورأى أنّ هناك عقبتَين كبيرتَين تعترضان تحقيق حلمه في تحويل تركيا إلى دولة إسلامية؛ أحدهما الجيش والآخر القضية الكردية. وبناء على هذه النتائج وحسب القاعدة التي تقول: ” الضرورات تبيح المحظورات” وبطبيعة الحال؛ فهذا هو فكر الإخوان المسلمين، حيث يسخّرون كلّ شيء في سبيل الوصول إلى الحكم. لذا؛ فقد لجأ أردوغان إلى استخدام القانون والديمقراطية والدبلوماسية والخداع قدر المستطاع للوصول إلى بناء جمهورية تركية الإسلامية. منذ عام 2002م أجرى أردوغان تغييرات ممنهجة وكبيرة في بنية الجيش، حيث قام بتصفية العديد من العناصر من خلال إقامة الدعاوى والإقصاء وتعيين الضباط الجدد، وفي مقدّمتها الاستفادة من انقلاب عام 2016م كدعاية كبير ة جدّاً والتظاهر بأنّه قد بات ضحية لمظلومية كبيرة جدّاً؛ فقد روّض الجيش وسيطر عليه إلى حدّ كبير، وممّا لا شكّ فيه أنّ مَن منحته تلك الفرصة هي الدولة العميقة والولايات المتحدة الأمريكية والناتو، فعلى الأقل منذ عام 2002م وحتى عام 2014م، ومع بدء مقاومة كوباني وخلالها، افتضحت خطط أردوغان ومشروعه الإسلامي البعيد عن استراتيجية أمريكا ومشروعها.
الجزء الأول من استراتيجية حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية إزاء الكرد:
تحت أي مسمّى كان، سواء كان الشرق الأوسط الجديد أو الشرق الأوسط الكبير أو أيّ مسمّىً آخر، لا يهمّ، لكن؛ يبدو أنّ تغيير منطقة الشرق الأوسط قد بدأ بالفعل منذ احتلال العراق في 2003م، وتركيا كثاني أقوى دولة في حلف الناتو كان يتمّ إعدادها لتلك التغييرات.
ومنذ عام 1996م عملت إسرائيل على توسيع نطاق علاقاتها مع تركيا لدرجة كبيرة، وخاصة في مواجهة حركة حرية كردستان، وفي 1996 وبقيادة كلّ من أمريكا والناتو وإسرائيل تعرّض القائد أوجلان لمؤامرة كبيرة؛ حيث تعرّض نتيجتها للاختطاف وتمّ إيداعه في سجن إيمرالي، كما أنّ حزب العدالةو التنمية، كحزب إسلامي، قد وصل إلى سدّة الحكم في تركيا في بداية عام 2002م، فهذه التطوّرات سابقة الذكر لم تأتِ من فراغ، بل كان يتمّ التحضير لتغيير نظام الشرق الأوسط؛ بحيث تقود تركيا راية هذه التغييرات تحت اسم الإسلام المعتدل، كما كانت أمريكا تتأمّل في أن تربط الشرق الأوسط، الذي تسيطر عليه الذهنية الإسلامية، بنفسها عن طريق تركيا. لذا؛ كنّا قد بيّنا أنّ مسألة قدوم أردوغان أو حزب العدالة والتنمية إلى السلطة مرتبطة بالدولة العميقة وكذلك بمشروع أمريكا والناتو، ومن ضمن تلك التحضيرات كان تجميد القضية الكردية في شمال كردستان وذلك بعد اعتقال القائد أوجلان، ولكن ليس بأسلوب عسكري، بل بأسلوب جديد اتّبعه أردوغان نفسه. لا يمكن القول أنّه في فترة حكمه لم يُحسن ولم يُجِدْ حزب العدالة والتنمية ممارسة السياسة؛ فالعدالة والتنمية مع تولّيه السلطة قد تدخّل في الملفّات الأكثر تعقيدًا وبدأ بتفكيكها عقدةً تلو أخرى، وتعامل معها بما يخدم غاياته ومشاريعه واستغلّها بشكلّ جيّد، فالمتابع لمسيرة وتحرّك حزب العدالة والتنمية منذ بدايات قدومه إلى السلطة سيقول أنّه قد جاء لانتشال تركيا من مستنقع الأزمات، وبناء وطن متّحد تنال فيه جميع الشعوب حقوقها، إلّا أنّه في الحقيقة قد اتّبع سياسة أعمق من ذلك؛ تهدف تلك السياسة للوصول إلى عام 2023م أي الجمهورية التركية الثانية، وإعلان جمهورية إسلامية بذهنية عثمانية، لتكون بديلًا عن الجمهورية الأولى (جمهورية كمال أتاتورك).
لذا؛ فإنّ الخطوات الأولى التي اتّخذت كانت في هذا الاتّجاه؛ كالاستعداد والتحضير لقدوم حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، أمّا على الصعيد الداخلي فقد تمّ اتّباع استراتيجية تصفية القضية الكردية في شمال كردستان، وإبعاد الجيش عن السياسة، وربط الشعب التركي بالحزب (العدالة والتنمية)، وبخصوص القضية الكردية فقد تمّ تفعيل الجزء الأول من استراتيجيته، فبعد عام 2003م وبسبب عدم مشاركة تركيا في حرب إسقاط نظام صدام حسين في بغداد، حيث لم يوافق البرلمان التركي على مشاركة تركيا في تلك العملية، ورغم إصرار أردوغان على المشاركة لقطع الطريق أمام بناء إقليم كردي، إلا أنّ فشل أردوغان في طلبه هذا قد فتح الطريق أمام جنوب كردستان ليتحوّل، بمساعدة أمريكا، إلى إقليم حرّ، ونتيجة لذلك؛ لايزال أردوغان حتى اليوم يتمنّى لو أنّه استطاع منع إقامة إقليم كردستان، ولكنّ أمنيته قد ذهبت أدراج الرياح وتمّ تأسيس الإقليم.
ولإبعاد الإقليم عن أجزاء كردستان الأخرى جعل أردوغان الإقليم مرتبطاً به، كما عزّز من علاقاته مع الحزب الديمقراطي الكردستاني على أساس العداء لحزب العمال الكردستاني، وإن لم يكن ذلك علنًا، كما استغلّ علاقاته بشكل جيّد في حملته الدعائية للانتخابات لكسب أصوات الناخبين الكرد في شمال كردستان، وفي الوقت نفسه عمل لعدم السماح بتطوير العلاقات الكردية – الكردية، كما عمل على تعميق الخلافات ما بين الحركات الكردية. في عام 2006م وعلى أساس إحلال السلام وحلّ القضية الكردية قد أعلن بدء مفاوضات أوسلو مع حزب العمال الكردستاني. وفي عام 2009م تمّت تهيئة مناخ مفعَم بالأمل لاستمرار السلام؛ بحيث فُتِح الطريق أمام الثقافة واللغة الكردية، كما سُمِح بتطوير الحركة السياسية الكردية.
ولتعزيز الثقة وتمتينها، فإنّ زيارة رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني لمدينة آمد واستقباله بحفاوة من قبل رئيس الوزراء التركي حينها (أردوغان)، قد أرسلت رسالة مليئة بالآمال الكبيرة بأنّ القضية الكردية تتّجه نحو الحلّ، إلّا أنّ المسألة لم تتعدَّ حدود استثمار بارزاني في مسألة الانتخابات، وفي الفترة نفسها كانت المفاوضات مع القائد أوجلان لحل القضية الكردية مستمرة منذ 2009م؛ وعلى هذا الأساس وجّه القائد أوجلان نداء إيقاف الحرب من طرف واحد في 2013م، وعلى ذلك الأساس أيضًا انسحبت قوات الكريلا من شمال كردستان إلى جنوب كردستان. ممّا لا شكّ فيه أنّه لم يكن حزب العدالة والتنمية جادّاً في مسألة إيجاد حلّ دائم ومنصف للقضية الكردية؛ فأردوغان كان يرغب في حلّ يتوافق مع غاياته ومصالحه، وكان يريد إشغال الكرد ببعض اللُّقَيمات والفُتات، ومن ثمّ يقوم بإضعافهم، لحين حصوله على الفرصة المناسبة للقضاء عليهم نهائيًا. لذا؛ وخلال سنوات المفاوضات والتقرّب من الكرد منذ 2006م وحتى 2014م، استفاد أردوغان بشكل كبير من حالة الهدوء في جبهات القتال، ومن تعزيز العلاقات مع جنوب كردستان (باشور)، ومناخ السلام في شمال كردستان (باكور) وانسحاب كريلا كردستان من شمال كردستان (باكور) إلى جنوبها(باشور)، كما استفاد أيضًا من ارتفاع نسبة مؤيّديه بين الكرد. وخلال هذه الفترة بات الاقتصاد التركي قويًا، كما توسّعت وتطوّرت علاقات تركيا مع العالم العربي وأوروبا وأمريكا والعالم الإسلامي، كما ظهر أردوغان كشخصية ديمقراطية ليبرالية ومتجاوبة مع المعايير الأوروبية وحقوق الإنسان، وخصوصًا تمّ الترويج لتلك الداعية القائلة بأنّه سيحلّ القضية الكردية بطرق سلمية.
الجزء الثاني من الاستراتيجية التركية إزاء القضية الكردية:
بدأت تركيا بتطبيق المرحلة الثانية من استراتيجيتها إزاء الكرد منذ إنطلاقة الربيع العربي في 2010- 2011م، والذي سمّاه القائد أوجلان بربيع الشعوب، ولم تبدأ منذ الخلافات بين حركة التحرّر الكردستانية وتركيا حول الموقف من الحرب في كوباني، والتي كانت تقتضي أن تدعم تركيا كوباني في حربها، إلّا أنّها لم تفعل، بل وذهبت إلى أبعد من ذلك؛ حيث عبّرت عن سعادتها بتنظيم داعش.
شعرت تركيا (حزب العدالة والتنمية – أردوغان) منذ 2011م أنّ الفرصة قد سنحت لها لبناء الجمهورية التركية الثانية وتحقيق حلمها في استعادة السلطنة العثمانية، ومع بروز حركات الإسلام السياسي في سوريا واحتضان تركيا لتلك الحركات، بدأ أردوغان بالتراجع في مسألة الاتفاق مع حزب العمال الكردستاني، وقد اتّضح ذلك جليًّا خلال عام 2014م، وفي عام 2015م بدأ بإظهار استراتيجيته في إبادة الكرد وتصفية حركة التحرر الكردستانية، وذلك بذريعة أن الحركة قد انتهكت عملية السلام التي كانت قد بدأت عام 2013م. إلّا أنّ الحقيقة أنّ تركيا هي التي أفشلت عملية السلام؛ وذلك بسبب رفع مكانة القضية الكردية وتنامي الشعور القومي وزيادة ترابط الشعب الكردي، فكان تنظيم داعش يتعرّض للهزيمة في غرب كردستان (روجافا) وكانت المناطق الكردية تتحرّر تباعاً، كما أنّ أردوغان كان يتأمّل – من خلال عملية السلام – الفوز برئاسة تركيا عن طريق أصوات الناخبين الكرد، وتجريد قوات الكريلا من سلاحهم وبالتالي تصفيتهم بسهولة، إلّا أن أحلامه قد ذهبت أدراج الرياح؛ لذا؛ فقد كشّر عن أنيابه ونزع عن وجهه الأقنعة فبرز وجهه الحقيقي للعلن. بدأت تركيا بتفعيل المرحلة الثانية من استراتيجيتها التي أعدّتها إزاء الكرد، حيث تتضمّن تلك الاستراتيجية العداء للكرد والتقارب ما بين حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية. وهذه الاستراتيجية هي على الشكل التالي:
- العمل على إلحاق هزيمة بالحركة السياسية في شمال كردستان (باكور)، وكذلك توجيه ضربة استباقية لأحلام الكرد؛ وذلك من خلال رفع وتيرة العنف والحملات العسكرية، واعتقال السياسيين الكرد، وفرض الخوف على كردستان، لذا؛ لم يكن يُظِهر أنّه لم يفِ بوعوده إزاء حلّ القضية الكردية التي كانت تقتضي أن يخطو أردوغان بعض الخطوات في ذلك المجال، خصوصًا بعد انسحاب قوات الكريلا من شمال كردستان (باكور) إلى جنوبه (باشور) بناء على نداء القائد أوجلان في 2013م، بل إنّ أردوغان قد اتّهم خطوات حركة التحرر الكردستانية بالخداع وعدم الجدّية، وفي عام 2015م تمّ ارتكاب مجزرة سروج التي تبّاها تنظيم داعش، وكانت بيد حزب العدالة والتنمية، والهدف منها هو نسف عملية السلام؛ بحجّة أنّ حركة التحرر الكردستانية قد أظهرت أنّ تركيا تعرّض عملية السلام للخطر؛ فإنّ أردوغان قد بدأ بعملية حرب الأنفاق ضدّ الكرد، رغم موقف حزب العمال الكردستاني وحزب الشعوب الديمقراطي الرافض لإنهاء عملية التفاوض. إلّا أنّ أردوغان كان مصرّاً على الإبادة وأعلن أن قوات الكريلا لم تنفّذ عملية الانسحاب من شمال كردستان (باكور)، كما وضّح نائب رئيس الوزراء التركي بأنّهم لا يبالون بما إذا كان حزب العمال الكردستاني قد انسحب أم لا، وأنّهم سيقومون بما هو ضروري، والضروري برأيهم يعني حلّ القضية الكردية عن طريق السلاح. كما قام بتعزيز علاقاته مع الحزب الديمقراطي الكردستاني في جنوب كردستان (باشور)، وفتح حدوده لعبور نفط جنوب كردستان (باشور)؛ وذلك لتحييد الحزب الديمقراطي الكردستاني عن تقديم الدعم لغرب كردستان (روجافا)، وكذلك لاستثمار هيمنة الحزب الديمقراطي الكردستاني على بعض أحزاب غرب كردستان (روجافا) لتسهم تلك الأحزاب في عرقلة تطوير مشروع الأمة الديمقراطية، وقد نجحت تركيا في هذا السياق؛ ففي الفترة الأخيرة استقبلت أربيل ممثّلين عن مرتزقة الائتلاف السوري (الذين يحتلّون عفرين) استقبالاً حافلاً، كما ضمّ المجلس الوطني الكردي بشكل مباشر إلى سياسة تركيا ومصالحها.
وفي ظلّ صمت الحزب الديمقراطي الكردستاني بدأت تركيا بحملة عسكرية على جنوب كردستان (باشور) للقضاء على قوات الكريلا، وتحت ذريعة محاربة الكريلا تفرض سيطرتها على إقليم كردستان، لتقوم باحتلال إقليم كردستان مستقبلاً، وقد مارست تركيا كل ذلك بسهولة وبساطة. وفي غرب كردستان (روجافا) أيضًا؛ بدأت تركيا بحملات الاحتلال منذ عام 2016م؛ حيث شنّت الحملة الأكثر إبادة ضدّ عفرين في عام 2018م، وبعدها سري كانييه (رأس العين) وكري سبي (تل أبيض) في 2019م.
إذا ما تتبّعنا الاستراتيجية التركية فسنرى أنّ تركيا قد وضعت أجزاء كردستان – عدا شرق كردستان (روجهلات)- ضمن مخطّطاتها التدميرية، ولتوجيه ضربة استباقية للقضية الكردية، ولخروج الكرد دون حصة نتيجة الأزمات في الشرق الأوسط، كانت تركيا تستعدّ لتنفيذ الميثاق الملّي في عام 2023م وتدخل إلى المئوية الثانية لتأسيس الجمهورية التركية، من خلال تأسيس جمهورية أردوغان الإسلامية (العثمانية) وجعلها بديلًا عن جمهورية أتاتورك. يرى أردوغان في الربيع العربي ربيعًا لبدء تأسيس العثمانية الجديدة وتنفيذ الميثاق الملّي، لذا؛ فإنّه قد تحدّث في كثير من خطاباته، منذ بدء الأزمة السورية، عن حلب وبعدها قامشلو وبعدها كركوك والموصل بأنّها أراضٍ تركية.
تُرى؛ هل حقّقت الاستراتيجية التركية أهدافها؟
تعلم تركيا جيّدًا أنّها لا يمكن أن تصبح جمهورية أو دولة مستقرّة وقوية ورئيسية في منطقة الشرق الأوسط دون إيجاد حلّ للقضية الكردية، ولكن أيّ حلّ؟!
لقد وضع القائد أوجلان أمام الساسة الأتراك خريطة طريق الحلّ وإنهاء حرب المئة عام، إلّا أنّه ومنذ عهد أتاتورك قد غُرِس في الذهنية التركية أنّ سبب انهيار الدولة العثمانية إنّما يعود لوجود قوميات متعدّدة تعيش ضمن حدودها، وأنّ تلك القوميات كانت سببًا في هزيمة العثمانيين، لذا؛ ولستمرّ الجمهورية التركية ينبغي ألّا توجد أيّة قومية أخرى عدا الأتراك، وينبغي تتريك كل مَن يعيش على أراضي الجمهورية وضمن حدودها.
لذا؛ فإنّ كلّ حكومة توّلت السلطة في تركيا كانت تتعامل مع الكرد على مبدأ الإبادة، سوى حكومة الرئيس السابق تركوت أوزال 1993م الذي حاول حل القضية الكردية سلميًا، لكن – بحسب بعض المراقبين – فقد تمّت تصفيته(أوزال)، رغم أنّ تركيا قد وصفت تصفيته بالموت الطبيعي. خلال مئة عام من تاريخ الجمهورية لم ولن تشهد تركيا نظامًا عنصريًا إزاء القضية الكردية مثل نظام أردوغان وحزبه حزب العدالة والتنمية، وخلال استراتيجيتها في إبادة الشعب الكردي والقضاء على قضيته توصّلت تركيا إلى مجموعة من النتائج؛ ومنها:
- ارتبط بها قسم كبير من الكرد المتديّنين في شمال كردستان (باكور) عن طريق تعزيز التديّن، وتحسين الوضع الاقتصادي في المناطق الكردية، وإشغال الشعب بالمكاسب المادية والترويج لبناء جمهورية إسلامية.
- الاستفادة من عملية انسحاب قوات الكريلا نحو جنوب كردستان (باشور)، حيث أعادت تركيا قواعدها العسكرية إلى الأماكن التي كانت قد انسحبت منها؛ ونتيجتها استشهد العديد من عناصر الكريلا، وتمكّنت تركيا من مهاجمة المدن الكردية بسهولة، مثل جزيرة وآمد وسلوبي.
- وجّهت ضربات قوية للحركة السياسية الكردية، وزجّت بالآلاف من أعضائها في المعتقلات.
- أنشأت عشرات القواعد العسكرية في جنوب كردستان (باشور)، واحتّلت مساحة واسعة من الأراضي هناك، كما عمّقت الخلافات مابين الحركات الكردية؛ فجعلت الحزب الديمقراطي الكردستاني تابعًا لها، وجعلت من وجودها في جنوب كردستان (باشور) وجودًا دائمًا.
- احتلّت مدن عفرين وسري كانييه (رأس العين) وكري سبي (تل أبيض) في غرب كردستان (روجافا)، كما فرّقت بين المناطق الكردية. كما استغلّت المجلس الوطني الكردي بشكل منظّم كمنافس للإدارة الذاتية.
إلّا أنّ تركيا وفي الوقت نفسه قد خسرت كثيرًا، وبشكل عام فإنّها تعيش حالة من الهزيمة الواضحة، وممّا فقدته تركيا:
- عُرِفت تركيا على الساحة الدولية كدولة غير موثوق بها ودولة مهاجمة ضمن منطقة الشرق الأوسط.
- نتيجة إصرار الدولة التركية على إبادة الكرد؛ فقد عُرِفت تركيا على المستوى الدولي كعدوّ للشعب الكردي، وليس كما أرادت تركيا أن تُظهِر نفسها على أنّها تعادي حركة إرهابية، فهي لم تنجح في هذا المجال.
- لم تنجح تركيا في تطبيق الميثاق الملّي، ولا في تأسيس الجمهورية الثانية (الإسلامية) التي كان من المتوقّع أن تُعلنها في 2023م؛ وذلك نتيجة المقاومة الكبيرة التي أبدتها حركة التحرّر الكردستانية في جنوب كردستان (باشور) وغربها (روجافا) وشمالها (باكور).
- رغم كل الهجمات التركية، إلّا أنّ غرب كردستان (روجافا) قد بات يشكّل قوة لا يمكن تجاهلها في الحلول المقبلة.
- خسرت تركيا كثيرًا على المستوى الاقتصادي بسبب سياساتها الهجومية، وتعرّضت للعديد من الأزمات الداخلية والخارجية على حدّ سواء، وخلال حملاتها العسكرية لم تتمكّن من القضاء على حركة التحرّر الكردستانية.
- لدى تركيا خلافات مع أمريكا وأوروبا والمنطقة؛ الأمر الذي أدّى إلى خسارتها لموقعها ومكانتها الجيوستراتيجية، كما أنّ القضية الكردية باتت في طريقها إلى أن تتحوّل إلى قضية دولية.
في المحصّلة:
إنّ استراتيجية تركيا في عهد حزب العدلة والتنمية – حزب الحركة القومية إزاء القضية الكردية هي الاستراتيجية الأكثر خطورة، حيث وجّهت ضربات كبيرة لمكاسب الشعب الكردي، لكن؛ بسبب وجود حركة التحرّر الكردستانية ومقاومة الشعب الكردي والقراءة الصحيحة للمجريات الأحداث، فقد تمّ إفشال استراتيجية تركيا إلى حدّ كبير، وخاصة مع بروز الوجه الحقيقي لتركيا كدولة مخادعة مع الجميع، ودعمها للمجموعات الإسلامية والإرهاب في الوقت الذي ألحق فيه الكرد هزيمة نكراء بالإرهاب، وعلى الصعيد الدولي فقد برزت حقيقة الكرد المطالبين بالديمقراطية، كما انكشف الستار عن حقيقة تركيا العنصرية.
تمرّ تركيا أردوغان في وضع سيّء في جميع الأصعدة والنواحي، فهي لم تتخلَّ عن استراتيجيتها إلّا أنّها قد وصلت إلى طريق مسدودة، لذا؛ فإنّها وعن طريق الاتفاقيات مع الدول المتقاسمة لكردستان تحاول القضاء على مكاسب الكرد، فهي تتحرّك وفق مبدأ ” إذا لم أنجح في تحقيق استراتيجية إبادة واحتلال كردستان، فعلى الأقّل يجب ألّا أسمح ببناء أي كيان للكرد”. طالما بقي أردوغان في السلطة، ورغم الأزمات الاقتصادية والسياسية والدولية التي يتعرّض لها، فإنّه لن يتخلّى عن استراتيجيته، وليست هناك أية فرصة لاتفاقه مع الكرد من جديد، وإذا ما رغب في ذلك فلن يكون بمقدوره، خاصّة أنّه قد ارتبط مع حزب الحركة القومية، لذا؛ نعتقد أنّ فترة حكم أردوغان هي آخر فترة لتركيا التي لا تعترف بالقضية الكردية، وأنّ رحيل نظام أردوغان عن السلطة سيفتح الباب أمام حل القضية الكردية في شمال كردستان (باكور)، كما نعتقد أيضًا أنّه سيتمّ إطلاق سراح القائد أوجلان من المعتقل، وأنّ الإدارة الذاتية سوف يتمّ تطبيقها في مناطق شمال وشرق سوريا بشكل حتمي.