رؤية في خلاف المياه والنفط بين تركيا والعراق وذريعة حزب العمال الكردستاني وسيناريوهات الحلّ
قبل الغوص في معضلة المياه، والنزاع حول مياه نهرَي دجلة والفرات بين تركيا والعراق، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ سوريا أيضاً تتشارك مع الدولتَين المذكورتَين في مياه نهر الفرات الذي يمرّ من الأراضي السورية بأكثر من 600كم، ونهر دجلة الذي يحاذي الحدود السورية بحوالي 50 كم في المنطقة التي تُسمّى بـ “منقار البطة”.
والنزاع حول مياه نهرَي دجلة والفرات بين العراق وتركيا يُعَدُّ من أعقد وأصعب النزاعات؛ لأنّه يمتدّ لعشرات السنين حتى قبل ظهور حزب العمال الكردستاني. إنّ الأمر الذي جعل تركيا تستغلّ معضلة المياه هو أنّها دولة المَنبَع لكلّ من نهرَي دجلة والفرات؛ وهذا ما يساعدها في ممارسة الابتزاز السياسي، والسعي إلى تحقيق أجندتها وأهدافها الاستراتيجية للوصول إلى حدود “الميثاق الملّي” بعد تشكيل جمهوريتها.
تعود الاتفاقيات الأولى حول المياه إلى عام 1946م، ولم تسنح الفرصة للعراق للمشاركة فيها؛ ربّما بسبب الأوضاع الداخلية غير المستقرّة، كما وُقِّعت اتفاقية ثانية بين العراق وتركيا لتقاسم المياه 1963م ولم تلتزم تركيا بتنفيذها بشكل كامل، وبعد عام 1980م انشغل العراق بحروبه مع إيران، ومن ثم باحتلاله للكويت، ثم بالاضطرابات الداخلية وسقوط نظام صدام حسين واحتلال التحالف الدولي للعراق 2003م، لذا؛ فقد استغلّت تركيا هذا الانشغال العراقي، بالحروب تارةً وبأوضاعه الداخلية تارةً أخرى، فلجأت إلى بناء مزيد من السدود الضخمة، مثل سدّ (أتاتورك) وسدّ (إيليسو) الذي ينتج 1200ميغاواط من الكهرباء وبدأ يعمل بكامل طاقته 2020م وتم الانتهاء منه عام 1990م، كما عملت تركيا على بناء 22سدّاً و19محطة لتوليد الطاقة، ولم تحفل تركيا بالقضاء على التراث الكردي في بلدة “حصن كيفا” التي يعود تاريخها إلى 12 ألف سنة، والتي غُمرت بالمياه وأغرقت العشرات من القرى وهُجِّر الآلاف من السكان المحليين، كما كانت له آثاره السلبية في العراق وسوريا من حيث نفوق أسماك في البلدَين، وتراجع منسوب المياه في النهرين إلى درجة خطيرة، وظهور سجون وأبنية كانت مغمورة بالمياه قبل السدود التركية.
الأنهار الدولية والأنهار المحلّية بموجب القانون الدولي:
حسب دراسات المتخصّصين؛ يبلغ طول نهر الفرات 2330كم، منها 442كم في تركيا و675كم منها في سوريا و 1213كم منها في العراق، ونهر دجلة يبلغ طوله 1718كم، بين كلّ من سوريا والعراق وتركيا، ما يعني أنّ النهرَين تنطبق عليهما مواصفات الأنهار الدولية، وهي بعيدة كلّ البعد عن مواصفات الأنهار المحلّية؛ لأنّها عابرة لحدود الدول وليست ضمن حدود دولة واحدة من المنبع حتى المصبّ، لتكون تلك الدولة صاحبة السيادة المُطلَقة على النهر بإقامة السدود والمنشآت وغيرها، بل يجب أن تكون السيادة مشتركة بين الدول التي يمرّ فيها النهر، كما هو الحال في أنهار (النيل والدانوب والراين وغيرها)، ولا يجوز لأيّة دولة أن تعبث بجغرافية النهر وتحويل مجراه بشكل كلّي أو جزئي، لذا؛ يمكن القول أنّه لا يحقّ لتركيا التفرّد باستغلال مياه النهرَين والعبث بجغرافيتهما وتراثهما واستخدامهما للضغوط السياسية؛ لأنّ النهرَين هما ملكٌ لشعوب المنطقة، بما فيها الشعب الكردي الذي يتشارك مع تركيا والعراق وسوريا وإيران حتى كجغرافية سياسية، ومن حقّه تحقيق التوازن والمساواة في الحصص وفق ميثاق الأمم المتحدة، وأن تنبثق من هذه الدول حكومات ديمقراطية تقبل الآخر المختلف وفق الكونفدرالية الديمقراطية لتحقّق الأمن والفائدة للجميع. لذا؛ فوجود حزب العمال الكردستاني ليس طارئاً في صراع الشرق الأوسط مع مختلف الدول التي وجدت ضمن حدود تعتبرها أزلية لا تغيير فيها؛ في حين تغيّرت تلك الحدود بعد الحرب العالمية الأولى والثانية أكثر من مرّة.
الابتزاز السياسي التركي:
يمكن القول أنّ العراق قد تعرّض لابتزاز مزدوَج من جاراتها؛ مرّة من إيران في زمن الشاه عام 1969م في استغلال لأزمة المياه واستخدامها ورقة ضغط على العراق، عندما قام الشاه بإغراق مدينة البصرة بالمياه، وخاصة جامعة البصرة، حين أطلق مياه نهر “كارون” وتسبّب بخسائر وأضرار مالية جسيمة؛ بهدف ابتزاز حكم البعث من أجل إلغاء معاهدة 1937م التي تحفظ حقوق الجانبَين في مياه “شط العرب”، وقد نجح النظام الإيراني حينها في الابتزاز ووُقّعت اتفاقية الجزائر في 6 آذار 1975م، والتي بموجبها تنازل صدام حسين مقابل القضاء على الحركة الكردية وتوقّف الشاه عن دعمها. ومرّة أخرى من تركيا؛ حيث يستمرّ الابتزاز التركي منذ عشرات السنين، منذ مقاومة حزب العمال الكردستاني، وبفعالية أكبر منذ سقوط نظام صدام حسين، وهي (تركيا) تحتلّ الأراضي العراقية بذريعة الأمن القومي التركي، وأقامت العشرات من القواعد في كردستان الجنوبية وفعّلت المدفعية والمسيّرات والطائرات؛ في محاولة للقضاء على حركة التحرّر الكردية، كما أجرت لقاءات وزيارات وتفاهمات من أجل ذات الهدف والأجندة، فالتفاهم الأخير الذي خلال لقاء وزيرَي خارجية البلدَين وبحضور وفدَين منهما، أمرٌ في غاية الأهمية؛ لتناول ملفَّي المياه والأمن (وهما ملفّان لا ينفصلان عن بعضيهما)، أي؛ حصول العراق على حصّة كافية مقابل إشراك الجيش العراقي والحشد الشعبي في حرب ضدّ حزب العمال الكردستاني؛ فمؤخّراً في تاريخ 15/8/2024م التقى فؤاد حسين وفالح فياض (زعيم الحشد الشعبي) مع هاكان فيدان ووزير الدفاع التركي يشار غولر وإبراهيم كالن (رئيس الاستخبارات التركيا) ونائب وزير الداخلية؛ وهذه اللقاءات تعود للاتفاقية الاستراتيجية للتعاون بين أنقرة وبغداد الموقّعة أثناء زيارة أردوغان للعراق في نيسان الماضي، ونتيجة التفاهمات الأخيرة فقد حُلّت ثلاثة أحزاب وأُغلِقت مقرّاتها بتهمة صلتها بحزب العمال الكردستاني، وهذه الأحزاب هي:
1-حزب الحرية والديمقراطية الإيزيدية.
2-حزب جبهة النضال الإيزيدي.
3-حزب حرية مجتمع كردستان.
على اعتبار أنّ حزب العمال الكردستاني مع الأحزاب المتعاونة معه كحزب الاتحاد الديمقراطي وقوات سوريا الديمقراطية وأحزاب في كردستان الجنوبية (المذكورة أعلاه) وأحزاب في كردستان الشرقية، يهدّد أمن تركيا والعراق معاً؛ وهذا يعني أنّه لا ينظر إلى حزب العمّال الكردستاني كشريك وممثّل للشعب الكردي، وهذا يدفع إلى جعل مشاكل الحدود والمياه عصية على الحلّ وتستمرّ لعقود قادمة.
ليس سرّاً أنّ حزب العمال الكردستاني ذو نفوذ وعلاقات في عموم الشرق الأوسط وحتى العالم؛ وله وزن كبير في عموم كردستان، لذا؛ يجب أن يُعامَل كشريك، كونه من الممثلين الكبار للشعب الكردي بكل أطيافه الى جانب مكونات أخرى كالسريان والعرب والأرمن وهو ما يجعله يصطدم بالموقفين التركي والعراقي؛ بل يصطدم كذلك بنفوذ الحزب الديمقراطي الكردستاني.
ملفات المياه والنفط من التفاهمات المستمرّة:
بالعودة إلى ملف المياه بين تركيا والعراق؛ فثمّة مطالب عراقية دائمة بالحصول على حصّة عادلة من مياه دجلة والفرات في ظلّ الجفاف التي يعاني منه العراق، حيث أضرّ بالمحاصيل الزراعية والثروة الحيوانية، مع مطالب أخرى تتعلّق بتصدير النفط من كردستان الجنوبية إلى ميناء “جيهان” التركي المغلَق منذ عام 2023م في شهر 25 آذار؛ بسبب حكم غرفة التجارة الدولية بدفع تعويضات للعراق (حوالي مليار ونصف المليار من الدولارات)، لأنّ التدفّقات النفطية من كردستان الجنوبية يومياً كانت تبلغ 450ألف برميل، كما أنّ تركيا ترغب في التخلّص من تسديد الاستحقاقات المالية للعراق (مليار ونصف المليار) التي حكمت بها غرفة التجارة الدولية، كما ترغب بمشاركة الشركات التركية في إنجاز مشروع “طريق التنمية” المشترك مع العراق؛ لتحقيق مكاسب اقتصادية قد تخفف من أزماتها الداخلية التي تتمثّل في الغلاء والتضخّم وتدهور قيمة الليرة التركية.
سيناريوهات الحلّ بين تركيا والعراق:
وهذه السيناريوهات مرتبطة إلى حدّ كبير بالوضع الدولي والإقليمي والداخلي في عموم الشرق الأوسط الذي مازال يغلي كالمرجل؛ فالتحشّدات الأمريكية من حاملات الطائرات والغواصات والقواعد العسكرية في الشرق الأوسط، نتيجة لحرب غزة وتصاعد وتيرة التوتّر الإيراني مع إسرائيل ورشقات وتهديدات تركيا الإعلامية لمساندة حماس، وهي (تركيا) تواصل تحدّيها باحتلال الأراضي العراقية وتفرض مذكّرات تفاهم مع “السوداني” وحكومته بموافقة إيرانية، بغرض التضييق على حركة التحرّر الكردية في العراق وقوات سوريا الديمقرطية؛ اعتقاداً منها أنّ ذلك يمثّل ضغوطاً على الولايات المتحدة لتجنح لعقد صفقة وقف إطلاق النار في غزة، وهذا ما يتمّ التمهيد له، والغالب أنّ إيران لن تردّ بسبب الخوف من ضرب مفاعلها النووي وبسبب أن وضعها الداخلي متأزّم سياسياً واقتصادياً، كما أنّ حربًا تقوم بها إيران سوف يؤدّي بها إلى التفكّك؛ نتيجة لمطالب الكرد والعرب والبلوش والأذريين وغيرهم بالحرية والديمقراطية، وهذا يشابه الوضع في تركيا، لذا؛ فإنّ إيران ستساند تركيا عند قدوم الخطر الجسيم الذي سوف يفرض التغيير القادم.
سيناريو الحلّ الأول:
أن تستمرّ تركيا بفرض التفاهمات على العراق، وممارسة الاستغلال والابتزاز السياسي والتضييق على الأحزاب الوطنية التي تزعم تركيا أنّها على صلة بحزب العمال الكردستاني، وذلك بالتعاون مع فالح فياض والحشد الشعبي وبالتحالف مع مسعود البرزاني وحزبه (الديمقراطي الكردستاني)؛ وبموجب التفاهمات تستفيد تركيا من مشاركة شركاتها في طريق التنمية وتطلق كميات معقولة من مخزون المياه في سدودها لتلبية حاجة العراق مؤقّتاً، لكنّها ستستمر في استغلال واستخدام هذه الورقة كلّما دعت الحاجة إلى ذلك، أي؛ أنّه لا حلّ نهائيًّا ودائمًا يحفظ الأمن المائي والغذائي ويحقّق مشاريع التنمية في العراق في ظل إدارة بايدن وبعده كامالا هاريس – في حال فوزها في الانتخابات الأمريكية – وكذلك لا حلّ في ظل العلاقات الدولية الحالية؛ حيث مساندة روسيا والصين لإيران وتركيا في ظلّ احتلال أراضٍ سوريّة في الشمال السوري، وتواجد روسي في غرب الفرات وفي حميميم وفي قاعدتها الجديدة في مدينة كوباني مع النظام السوري وبموافقة تركيا؛ فبذلك ترتاح تركيا في علاقاتها مع الدولة العراقية وكذلك مع النظام السوري، في ظلّ التواجد الروسي الذي يحرص كلّ الحرص على عدم إثارة قلق تركيا، كما تسعى تركيا لأن تلعب بغداد دورًا في التقارب بين سوريا وتركيا بضوء أخضر إيراني؛ فكلتا الدولتين تقفان ضدّ وجود حركة التحرّر الكردية والقوات الحلّيفة معها (قوات سوريا الديمقراطية والأحزاب الوطنية الحلّيفة).
سيناريو الحلّ الثاني بين العراق وتركيا:
ويكمن هذا الحلّ في تشكيل لجنة دولية من الأمم المتحدة وتحت إشراف مجلس الأمن الدولي والدول الأساسية فيه، هذه اللجنة تختصّ بتحديد الأنهار الدولية والمحلّية، وتحدّد حقوق كلّ دولة من الدول التي تتشارك في مياه دجلة والفرات، وتأخذ بعين الاعتبار الطول والمسافة، ويكون للجنة الدولية حقّ فرض القانون الجزائي بحق الدولة التي لا تلتزم بمعايير قانون الأنهار العابرة وفق الأعراف والقانون الدولي، وكذلك يستعيد العراق قوّته في الجيش والقوات المسلحة والقوة الجوية ويقضي على الفساد في إدارته ويتخلّص من نظام المحاصصة القومية والطائفية، ويتحوّل إلى دولة ديمقراطية حقيقية ذات بنية تحتية قوية، لتردّ على أيّة تجاوزات من دول الجوار كتركيا وإيران؛ بما يوفّر لها توازنًا في القوى العسكرية الإقليمية.
سيناريو الحلّ الثالث بين العراق وتركيا:
وهذا الحلّ مرهون بالتغيّرات السياسية والجغرافية داخل كلّ دولة وفق التغييرات الدولية والإقليمية القادمة؛ حيث سقوط أردوغان في الانتخابات القادمة أو عدم ترشّحه لمنصب الرئاسة، وهذا الأمر منوط بالتغيّرات الدستورية من خلال العودة إلى تحديث الدستور داخل تركيا ونجاح الأحزاب الوطنية والديمقراطية في التحالفات وإنشاء جبهة قوية متماسكة تنسجم مع التغيّرات دولياً وإقليمياً وداخلياً، والأمر ذاته متوقّع في إيران؛ حيث تتحالف جميع قوى وأحزاب المكوّنات القومية والعرقية وتغيّر النظام الإيراني وإنهاء هيمنة الشيعة وولاية الفقيه، وهذا الأمر لا يمكن تحقيقه في ظلّ فوز ترامب بانتخابات الرئاسة في الولايات المتحدة، خاصة مع إيران؛ لأنّه سبق له (ترامب) أن انسحب من الاتفاق النووي وفرض عقوبات مالية على إيران، وربّما تتوافق ولاية ترامب الجديدة مع كلّ من تركيا وروسيا، لتعاون سابق بين كلّ من ترامب وروسيا وإسرائيل، وفوز ترامب لا يحقّق مصالح الإدارة الذاتية الديمقراطية لشمال وشرق سوريا؛ وذلك بسبب مواقف سابقة لترامب مع شمال شرق سوريا، عندما تغاضى عن الاحتلال التركي لسري كانيي/رأس العين وكري سبي/تل أبيض.
الغالب – وحسب استطلاعات الرأي – هو رجحان كفّة كاملا هاريس في الفوز بالانتخابات الأمريكية؛ وهو ما سيعزّز موقف الإدارة الذاتية الديمقراطية مع الولايات المتحدة والتحالف الدولي ضدّ تنظيم داعش والنظام السوري والفصائل الموالية له، كما سيسمح بتهيئة الظروف لتطبيق الكونفدرالية الديمقراطية بين كافّة شعوب ومكوّنات المنطقة على أساس من المساواة في الحقوق والواجبات بما يحقّق أخوّة الشعوب والأمّة الديمقراطية.