حزب العدالة والتنمية أجندات (حزبية) على حساب تركيا وشعوبها

الأحزاب التي تحكم بلدان الشرق الأوسط، سواء تلك التي جاءت إلى الحكم عن طريق الانقلابات العسكرية أو تلك التي جاءت إلى الحكم عن طريق الانتخابات، معظمها لا تحترم إرادة الشعوب بل إنّ تلك الأحزاب تتماهى مع عقلية مؤسّسات الدولة و تحلّ محلّها في أغلب الأحيان لدرجة يصعب معها التمييز بين سلطتها و سلطة الدولة.
ويعتبر حزب العدالة والتنمية الذي يحكم تركيا منذ سنوات خير شاهد على ما نقول، ويمثّل صورة واقعية لهذه الأحزاب في الشرق الأوسط، وهي بالتأكيد صورة مغايرة للصورة النمطية المتداولة عن السياسة التركية بقيادة حزب العدالة والتنمية في الداخل والخارج.
وأريد هنا أن أطرح مقاربة مختلفة تلمس الواقع السياسي التركي وتشخّص المشكلة، وأرجو أن يستقبلها القارئ دون تشنّج أو اندهاش وأن يؤجّل حكمه قليلًا وألّا يتسرّع، وسوف أعتبر طرحي هذا شكلًا من أشكال التأمّلات الخاصّة وآمل أن يتفحّصها القارئ، ولا بأس إذا اختلفنا.
إذا قارننا بين حزب العدالة والتنمية الذي وصل إلى الحكم في تركيا عن طريق الانتخابات (حسب وصف الحكومة التركية) وبين حزب آخر جاء في بلد آخر إلى الحكم بواسطة الانقلاب أو الانتخابات الصورية، فإنّنا لن نجد فارقًا كبيرًا بينهما من حيث الاستئثار بالسلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، ومن حيث تهميش فئة أو أكثر من فئات المجتمع حقوقيًا وسياسيًا واقتصاديًا، خاصّة عندما يتعلقّق الأمر بالأقلّيات القومية والطائفية والمذهبية ….الخ.
ولا نتجنّى على حزب العدالة والتنمية إذا قلنا إنّه يجمع السلطات الثلاث في يده، من سلطة الرئيس إلى سلطة رئيس الوزراء الى الوزراء إلى أعضاء البرلمان ……الخ.
وقد يتساءل سائل: ما المشكلة في ذلك، إذا كان قد جرى الأمر بشكل (ديمقراطي) على طريقة الديمقراطية التركية؟
وهنا سأتّفق مع السائل وأعتبر المسألة طبيعية، وأقرّ بأنّه من حقّ حزب العدالة والتنمية وفق الدستور أن يستأثر بالسلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، لأنّه فاز بالأغلبية الساحقة عبر الانتخابات، ولكن اعتراضي جاء عندما محا حزب أردوغان كيان الدولة التركية العتيدة وحلّ محلّها، وعندما أخذ ينفّذ الأجندات السياسية والأيديولوجية الحزبية والعنصرية(حرمان مكوّن أساسي من مكوّنات الشعب التركي من حقوقه الوطنية والثقافية و القومية، وأقصد المكوّن الكردي الذي يبلغ تعداده أكثر من عشرين مليونًا، أي 25% من سكان تركيا) بحجّة أنّه لا ينتمي إلى القومية التركية، أو يحرم عشرة ملايين علوي أو أكثر من حقوقهم المذهبية أو الطائفية بحجّة أنّهم ليسوا من المذهب السنّي ….الخ) على حساب أجندة الدولة التركية التي من المفترض أن تكون أجندة الشعوب التركية.
وضمن هذا السياق هناك ثلاثة أسباب رئيسية تدفع حزب العدالة والتنمية إلى هذه الهوّة السحيقة:
1- يعتقد حزب العدالة والتنمية أنّه الدولة، وأنّ والدولة هي حزب العدالة .
2- يعتقد حزب العدالة والتنمية أنّه الوريث الشرعي للإمبراطورية العثمانية.
3- يعتقد حزب العدالة والتنمية وبقناعة راسخة أنّ أمريكا والغرب وإسرائيل يؤيّدونه، وأنّه يستحقّ هذا التأييد بوصفه العضو المهمّ في حلف الناتو.
وإذا ما حلّلنا هذه الأسباب الثلاثة إلى عواملها الأوّلية وفق منظور سياسي معاصر، فإنّ سياسة حزب العدالة والتنمية وفق هذا النمط البائد من التفكير يُدخل الدولة التركية في أزمات لا يمكن التكهّن بنتائجها، وأثبت التاريخ عدم ّ صحّة هذه الأطروحات، خاصّة بعد تغيّر ديناميكيات البيئة الدولية في مرحلة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001/، وما فرضته من أدوار جديدة للقوى التقليدية ومنها تركيا.
وإذا دخلنا في عمق الموضوع وأخذنا التعامل مع المكوّن الكردي كنموذج لسياسة حكومة حزب العدالة والتنمية، فما ذنب الشعب الكردي الذي يعاني الفقر والحرمان والتهميش حتى قبل ظهور الأحزاب التي تدّعي تركيا بأنّها إرهابية بعشرات السنين ؟
وما هو سبب القتل والقمع الذي يطال المواطنين الكرد في شمال وشرق سوريا يوميًا، بأوامر من حزب العدالة والتنمية وتحت شعار حماية الأمن القومي التركي ؟
ما هو سبب إغلاق مكاتب حزب الشعوب الممثّل الشرعي للشعب الكردي، واعتقال المئات من قادته ؟
ولو فكّر حزب العدالة والتنمية لحظة بعقلية الدولة كمؤسّسة عامّة لصالح جميع المكوّنات، لفتح الباب على مصراعيه أمام حلّ وطني للمشكلة الكردية، حقنًا للدماء التركية والكردية على السواء، خاصّة أنّ الكرد يسعون بكافّة السبل إلى حلّ المشكلة سلميا ضمن وحدة البلاد وبالتفاوض، وأعلنوا أكثر من مرّة عن وقف لإطلاق النار من جانب واحد .
على ضوء هذه التفاصيل أعتقد أنّ حزب العدالة والتنمية ينفخ في قربة مثقوبة عندما يفكّر بإحياء روح الإمبراطورية العثمانية على حساب الشعوب والأقلّيات المغلوبة مرّة أخرى، فهذا النوع من التفكير يعتبر شكلًا من أشكال الجنون السياسي و ضربًا من الوهم والخيال، وهو في النهاية تفكير عبثي لا يقبله العقل والواقع ولا يمكن إرجاع الزمن إلى الوراء، ثم إنّ المصالح الإستراتيجية الأمريكية والأوربية والإسرائيلية تحكم العلاقة مع تركيا، وطالما أنّ لأمريكا والغرب مصالح سياسية واقتصادية وعسكرية في الشرق الأوسط، فإنّ تركيا ستظلّ منطقة بالغة الأهمية والحساسية بالنسبة للغرب عامّة والولايات المتّحدة خاصّة، لجهة الدور المهم لتركيا كنافذة على محاور وبلدان ذات أهمية خاصة بالنسبة لواشنطن، مثل روسيا وإسرائيل والعراق وإيران وسوريا وأرمينيا وجورجيا وأذربيجان، ولجهة موقع تركيا كطريق عبور رئيسي للقوّات والمعدّات الأمريكية المتّجهة للعراق وأفغانستان والشرق الأوسط، خاصة إذا قرّرت أمريكا ضرب إيران، وتبقى تركيا طريق عودة رئيسي عند خفض أمريكا لقوّاتها في الشرق الأوسط، ويمكن لقاعدة (إنجرليك) الجوية في جنوب شرق تركيا أن تقوم بدور رئيسي في حالتي العبور والعودة والوقوف في وجه روسيا.
وكلّما كانت تركيا ضعيفة وغير مستقرّة وغير متصالحة مع مواطنيها، تكون استجابتها أكبر للمصالح الغربية ومصالح القوى العظمى، وتأخذ صفة الحليف ذي المواصفات العالية لديهم، وهذا هو مربط الفرس، ورأينا كيف صعقت أمريكا في عام/ 2003 / عندما عارضت أنقرة غزو العراق ورفضت السماح للقوات الأمريكية بنشر قوّات على أراضيها، وهذا الرفض بالذات كان “القشة التي قصمت ظهر البعير” بين أمريكا وتركيا، وأدركت أمريكا بعد هذا الرفض التركي أنّ أفضل وسيلة للسيطرة على الأخيرة هو إشغالها بمشاكل داخلية وإضعافها.
في هذا الوقت ينبغي أن يدرك المراقب السياسي أنّه أمام حزب مغفّل مخادع يضع مصير شعوب تركيا في أيدي حزب مغامر، و يوظّف المقدس الديني في خدمة أغراضه الحزبية الضيقة، حيث يصل الاستخدام إلى حدّ توظيف الدم التركي والكردي في خدمة مصلحة بقائه واستمراره على رأس السلطة في تركيا.
ولو فكّر حزب العدالة والتنمية وفقًا لمصالح الشعوب التركية، لَتصالح مع شعبه وهو أساس قوّة كلّ دولة.

زر الذهاب إلى الأعلى