تداعيات الحرب على غزة دولياً وإقليمياً وداخلياً

السابع من  أكتوبر 2023 ونتيحة  لما قامت  به حركة حماس الفلسطينية من  هجوم  مباغت على المواقع وبعض المستوطنات الإسرائيلية، جعلت  من قطاع غزة  محور الاهتمامَين العالمي والاقليمي سياسيا وإعلاميا، علمًا أنّها جغرافيا تعدّ منطقة صغيرة  جدّا؛ فقطاع غزة طوله ٤١ كم وعرضه ٦ كم ومساحته الإجمالية ٣٦٠ كم، حدوده مع اسرائيل ٥١ كم، في حين حدوده مع مصر ١١ كم، أما طول ساحل له على البحر الأبيض المتوسط فهو ٤٠كم، ولديه ستة معابر تتحكّم بها إسرائيل، وهي من المناطق الأكثر اكتظاظاً في العالم بالسكان مقارنة بمساحتها الصغيرة. تتحكّم حركة حماس في قطاع غزة، وتعدّ حركة سياسية سنّية فلسطينية مسلّحة مرتبطة فكرياً بجماعة الأخوان المسلمين، وعلى الرغم من كونها حركة  سنّية إلّا أنّها  مموّلة ومسلّحة إإيرانيا، حيث تعدّ جزءًا ممّا  يسمّى  بمحور االمقاومة، مثلها مثل حزب الله اللبناني والحشد الشعبي العراقي وجماعة الحوثيين في اليمن، ولا ننسى أيضاً أنّها تتلقّى الدعم من قطر وتركيا، حيث أعلنت أنّ حماس هي حركة مقاومة، وتحتضن قياداتها، على العكس من حلفاءها الغربيين الذين يعدّون حماس حركة إرهابية. شنّت حركة حماس  في السابع من  أكتوبر 2023 هجوماً مباغتاً وعنيفا على إسرائيل استخدمت فيها ما لا يقلّ عن ثلاثة آلاف صاروخ، وسُمّي بـ”طوفان الأقصى”.  كلّ المؤشّرات وجّهت أصابع الاتهام الى إيران  في هذه العملية  لمعطيات عديدة؛ منها أنّ إيران تدرك أنّها مستهدفة إسرائيلياً وأمريكياً، وأنّهما يسعيان جاهدين للجم جماح رغبتها في الحصول على السلاح النووي، وتزايد الهجمات الاسرائيلية والأمريكية ضد ميليشياتها ومراكزها وقواعدها وقتل بعض من قادتها في كل من العراق وسوريا، إلى جانب تزايد احتمالات التطبيع السعودي الاسرائيلي، وهو ما لا يدخل في خدمة المصالح الإيرانية؛ فعملت على تحريك أذرعها في كل من سوريا ولبنان واليمن ومن ضمنها حركة حماس فكان طوفان الأقصى. حيث تمكّنت حماس من  قتل ما لا يقلّ عن 1000 اسرائيلي وأسر ما لا يقلّ عن ٨٠٠ شخص، ناهيك عن الجرحى  وأغلبهم  من  المدنيين، ما أثار ردود أفعال عالمية وإقليمية وداخلية بالشجب والاستنكار والإدانة وإعتبار حماس حركة إرهابية شبيهة  بداعش والنصرة. ما أعطى لاسرائيل فرصة ثمينة للانقضاض عليها والتخلّص منها؛ كونها أصبحت حركة منبوذة, كما فقدت مكاسبها وعادت إلى المربّع الأول، وفقدت الكثير من قاداتها وجنودها في حرب اعتبرت طائشة وغير محسوبة النتائج، كما أفسحت المجال لإسرائيل لضرب البُنى التحتية وقصف المشافي والمراكز والمدارس ودور المدنيين، ووصل الضرب إلى أبعاد كارثية جرّت الويلات والمآسي للسكان في القطاع، فكانت لهذه العملية أبعاد عديدة.

أبعاد عملية  (طوفان الأقصى ):

أولاً-البعد الدولي: ويتضح ذلك جلياً من الموقف الأمريكي والبريطاني والدول الأوروبية التي صنّفت هذه العملية على أنّها  إرهابية بامتياز لا لبس فيها، كما أثارت ردود أفعال قوية في العالم أجمع وخاصة في أوساط الغرب،   ناهيك عن الموقف الأمريكي الصارم والدعم اللامحدود الذي قدّمته للإسرائيل، وإن شابها في الآونة الأخيرة بعض الاختلافات في وجهات النظر الأمريكية الإسرائيلية  فيما يخصّ الهجوم البرّي على رفح، وعملية وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، وإمداد القطاع بالمواد الإغاثية، والتحقيق في القصف غير المبرّر على المدنيين أثناء توزيع المساعدات، وكذلك حلّ الدولتين والتي ترفضها اسرائيل جملة وتفصيلاً. إسرائيل هي المسؤولة أمام شعبها، وكمحصلة لجأت إلى استعمال القوة المفرطة واتّبعت سياسة الأرض المحروقة، وأصبح كلّ شيء مباحًا؛ لأنّها فقدت بوصلتها في غزة، وهي ترى بأنّ جنودها يُقتَلون، والحرب لا تزال على أشدّها والمعركة لا زالت مستمرة ومستعرة والخسائر جسيمة من الطرفين، فعمّت الفوضى والارتباك في القيادة الإسرائيلية غير المنسجمة أصلاً والحالة لا زالت قائمة ومستمرة؛ حيث أنّ هذه العملية قد هزّت أركان الحكومة الاسرائيلية، وكانت صدمة دراماتيكية مفاجئة وغير مسبوقة لنظام الأمن القومي الاسرائيلي، وكذلك اعتُبر اختراقاً للردع الاسرائيلي وقبّتها الحديدية. كشفت هذه العملية عن حجم الخلل والثغرات داخل المنظومة القيادية الاسرائيلية؛ ونتيجة ما حدث سعت حكومة نتيناهو جاهدة إلى إعادة الثقة وترميمها واسترجاع صورتها النمطية بالتفوّق العسكري والأمني؛ لذلك بذلت قُصارى جهدها لوضع حدٍّ لحركة حماس ومنع أية محاولة لتكرارها مستقبلاً، لأنّ الشعب الاسرائيلي مستاء جدّاً من هذه الأحداث الدامية، وهو على طرفي نقيض من سلوك الدولة التي لا تستجيب للدول التي تطالب بوقف إطلاق النار وإعادة الأسرى واللجوء للحوار والإصغاء لمواقف هذه الدول بأنّ مفتاح القضية الفلسطينية الاسرائيلية هو “حل الدولتين” على أساس الشرعية الدولية.

ثانياً: البعد الإقليمي: ويتضمّن الدول التي لها صلة مباشرة أو غير مباشرة، ومن أهمّها إيران وتركيا. فموقف تركيا كان موقفاً متأرجحاً في البداية؛ حيث سارعت حكومة أردوغان كالعادة في توظيفها لخدمته واللعب على الأوتار المتناقضة، فسارعت في العمل من أجل تخفيض التصعيد لوقف إطلاق النار، وبأنّها على مسافة واحدة من كلا الطرفين، لكن سرعان ما تبدّل الموقف وصار أردوغان المخادع السياسي يندّد بالمجازر تحت ضغط جماعته المتشدّدة إخوانياً وإسلامياً متطرّفاً، وأبدى استياءه لعدم استجابة نتنياهو لوقف الحرب، وموقفه المتشدّد تجاه حماس؛ لذلك قطع اتصالاته ووصفه بالمجرم القاتل، وكعادته راح يتباكى على أطفال فلسطين كما الحال في مؤتمر دافوس، وفي الوقت ذاته يبعث أردوغان حمم طائراته التي تجوب فضاء روج آفا بلا هوادة، ويصبّ جام غضبه مستغلّاً الظروف لضرب البنى التحتية للمنطقة ناسياً أو متناسياً أنّ هذا هو النفاق بعينه، فأين هو من الإنسانية؟!

 أمّا الموقف الإيراني فقد كان أكثر إيلاماً؛ حيث خرج المرشد الأعلى مادحاً العملية بأنّها الزلزال المدمّر، وتابع قائلاً: “إنّنا نقبّل الأيادي التي خطّطت للهجوم”. وكيف لا؟! فهي التي موّلت ودعمت وساندت هذه العملية منذ انطلاقتها؛ لأنّها تسعى جاهدة لحماية مصالحها وحلفائها في المنطقة، والذين يقودون الحرب نيابة عنها ضد اسرائيل ومصالح أمريكا في المنطقة، بهدف إعاقة المشروع الأمريكي القادم إلى الشرق الأوسط.

ثالثاً: البعد العربي: مواقف الدول العربية هي مواقف ضعيفة وهزيلة وخجولة لا ترقى إلى مستوى الحدث، وجاءت ردود أفعالها متباينة؛ حيث دعا بعضهم إلى ضبط النفس وعدم توسيع نطاق الحرب، وكفّ اسرائيل عن الاعتداءات المتكرّرة وعدم التصعيد والدعوة للتهدئة وحماية المدنيين العزّل، والالتزام بالقوانين الدولية وتفعيل عملية السلام من خلال “حلّ الدولتين”. أمّا بعضها الآخر فيرونها من زاوية أخرى، حيث يريدون التخلّص من القضية الفلسطينية.

رابعاً: البعد الداخلي: أعادت هذه العملية القضية الفلسطينية إلى المربّع الأول، ويتّضح ذلك من ردود المواقف السياسية الدولية والإقليمية تجاه القضية الفلسطينية، حيث تعمّق الخلاف الفلسطيني أكثر فأكثر، وألحقت ضرراً بالغاً بالشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، وبالتالي مصيرها كحركة لا يزال مجهولاً، فإن دامت ستبقى حركة ضعيفة لا تقوى على الحياة كما يجب، لأنّ تداعيات هذه العملية تحمل في طيّاتها سيناريوهات عديدة ربما تكون الأسوأ بالنسبة لها وللشعب الفلسطيني؛ لأنّ فعلتها ستجبر الجميع على دفع الفاتورة.

البعد الاسرائيلي: هذه العملية المفاجئة أربكت القيادة السياسية الاسرائيلية، حيث وجدت نفسها في مأزق كبير وأمام معضلة شديدة التعقيد، ولأوّل مرّة يرى مستوطناته تلتهب حرقاً وجنوده يُؤسَرون ويُقتَلون بهذا الشكل الفظيع؛ لذلك أعلنت الحرب وبشراسة تحت مسمّى “السيوف الحديدية” ضد غزة.

هذه العملية هي اختراقة نوعية وضربة للاستخبارات في إسرائيل، لذلك اختلفت الموازيين واختلّ التوازن السياسي والعسكري والاجتماعي؛ فأصبح من أولى أولوياته استرجاع الأسرى والقضاء على الحركة بالسرعة القصوى، وعلى ضوء هذه المعطيات والأحداث والأبعاد الدولية والاقليمية والداخلية بخصوص العملية ومستقبلها وصداها وتداعياتها، نستنتج:

١- هذه العملية كشفت عن حجم الخسائر التي لحقت بالجانب الفلسطيني، وأثارت الغموض عن الدول الداعمة لها.

٢- ما قامت به حركة حماس من قتل وأسر للمدنيين أثارت زوبعة في جميع الأوساط، واعتبروها  حركة إرهابية.

٣- أوضحت بأنّ الحلّ يجب أن يكون بالحوار السلمي على أساس الشرعية الدولية، والتي تنصّ على إقامة دولة فلسطينية ودولة اسرائيلية.

٤- تشكيل  دولة فلسطينية ضعيفة  تفتقر إلى أدنى مقوّمات الحياة، وتحويل حركة حماس إلى جسم ضعيف غير قابل للحياة على الأقلّ في السنوات المقبلة.

٥-  ضربة لإيران الداعمة لحماس، من  خلال  بتر أولى أذرعها في المنطقة.

٦- هذا الهجوم سيساعد على تطبيع اسرائيل مع ما تبقّى من الدول العربية عندما يتم حلّ القضية على أساس الدولتين.

٧- هذا الهجوم سيلقي بظلاله على قضايا الشرق الأوسط بشكل أو بآخر، وتحديداً ستُرسَم خارطة شرق أوسط جديد، عندما يتمّ القضاء تدريجياً على ما يسمّى بـ “محور المقاومة” بدءاً بحماس وحزب الله وانتهاءً بالميليشيات الإيرانية المتواجدة في سوريا، وسيكون التأثير مباشراً على القضية الكردية والتي يعدّ حلّها الأساس في تحقيق مشروع “الشرق الأوسط  الجديد” والتي ستكون نواة مركزية لحلحلة المشروع الذي بموجبه ستتحوّل الدول إلى أقاليم وفدراليات في المستقبل ووفقاً لظروف كلّ بلد، فسوريا قد تكون أقاليم فدرالية أو إدارات ذاتية وفقاً لدستور جديد وانتخابات جديدة مروراً بالشرعية الدولية  ٢٢٥٤

8- هذه العملية ستضع حدّاً لإيران وسياستها التوسّعية، وستغدو دولة معزولة بدون أذرع، همّها الحفاظ على مركزيّتها، ولكنها  لن  تنجو من التقسيم الذي سيطالها أوّلا ومن  ثم قد يطال تركيا أيضا.

زر الذهاب إلى الأعلى