الإبادة العثمانية بصبغتها الأردوغانية

 

احتلت تركيا مناطق من شمال سوريا بدءاً من جرابلس والباب عام 2016 وعفرين في عام 2018 وسري كانيه وكري سبي في هذا العام، من خلال عمليات تحت مسميات درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام، واستخدمت الفصائل الإرهابية التي تسمي نفسها بقوات التحرير الوطنية كبيدق بيدها، لتمرير سياساتها الفاشية والعنصرية بحق الشعوب والمكونات المتعايشة في شمال سوريا وتمزيق أوصالها، ومن المعلوم أن لتركيا باع طويل في مثل هذه السياسات القذرة والتي تستهدف المنظومة الاجتماعية والثقافية المشتركة والمتعايشة منذ مئات السنين، وذلك عن طريق إحداث النزعة العنصرية والفاشية من خلال أجنداتها واستخدام الدين بين شعوب المنطقة والقومية بين الأتراك كوسيلة لتحقيق ذلك، ولم تقتصر هذه السياسة المتبعة على حزب العدالة والتنمية فقط إنما تتعداها إلى جميع الأحزاب التي وصلت إلى الحكم منذ تأسيس الجمهورية التركية في عام 1923 وقبلها بأربعة عقود أيضاً، أي منذ أن هبت رياح القوموية على الشرق الأوسط.

وما يمارسه اليوم ما يسمى بالجيش الوطني السوري المرتزق لتركيا من ممارسات وانتهاكات تتجاوز كل المعايير الإنسانية والأخلاقية، حيث لم تشهد أي بقعة جغرافية في العالم هكذا أعمال وسياسات قذرة مثلما يفعله هؤلاء المرتزقة في شمال سوريا ضد الكرد والأرمن والسريان والعرب، من تدمير للممتلكات والمقدسات والإبادة الجسدية والثقافية، وما يجري في عفرين المحتلة خلال أكثر من سنة ونصف (من قتل وتدمير ونهب وتطهير عرقي وسرقة الآثار) تشهده كذلك المدن المحتلة من قبل تركيا ومرتزقتها مثل سري كانيه وكري سبي على قدم وساق.

 ومنذ اليوم الأول للاحتلال التركي لشمال سوريا يرتكب مرتزقتها ما يسمى بالجيش الوطني وبتعليمات من الدولة التركية مزيد من الانتهاكات بشكل يومي من خلال ارتكاب شتى صنوف القمع والإبادة والتغيير الديمغرافي الممنهج وشتى أساليب وأشكال الاضطهاد بحق المدن بشراً وشجراً وأرضاً وإزالة وتشويه المعالم التاريخية الموجودة على سطح الأرض وباطنها، وكأن كل شيء مباح لها  في هذه المنطقة، وتحويل هذه الممارسات إلى عمل يومي ينتهجها المرتزقة، وهذا نابع من السياسة التركية بقيادة حزب العدالة والتنمية الذي يمارس سياسة مزدوجة من الإسلاموية والقوموية الفاشية، ولا يخفى على أحد مناظرات أردوغان في الجوامع وخطاباته أمام الجمهور ووصفه للكرد بالكفار وحث المجتمع التركي المتدين بالدين الإسلامي على محاربة الكرد كونهم كفاراً، وبالتوازي مع ذلك يستخدم لغة قومية فيقوم بإلصاق صفة الإرهاب بالكرد بحجة أنهم يشكلون خطراً على القومية التركية، ويستلهم أردوغان سياسته من الطوراني ضياء كوك ألب المهندس الاجتماعي والمنظر الفكري للإبادات، ذلك الشخص الذي كان يحمل فكر ذو طابع وحشي وعنصري وجميع أفكاره وتنظيراته كانت قائمة على تشكيل دولة من عرق واحد، و يُستنتج من ذلك أن تأسيس الدولة التركية الحديثة وشكلها الاجتماعي القائم حالياً هي نتاج العقلية الاجتماعية والدينية للمنظرين والأئمة الاتراك في القرن العشرين، والتي أفرزت ذهنية قوموية لامثيل لها في العالم والتي خدمت النظام العالمي حينها المبني على القومية الواحدة، ومن أبرز تلك المقولات التي أفرزتها هذه الذهنية مقولة “أن كل تركي يعادل سبعة عوالم” والتي تدل على مدى الاستعلاء الموجود في العنصرية الفاشية بحيث تتمثل في سمو العرق التركي على كل الاجناس والأعراق.

وللدولة تركيا ميراث كبير في هذا الصدد، فإن ما يجري اليوم من إبادة للشعب الكردي والمكونات الأخرى في شمال سوريا حلقة من حلقات الإبادة التي تمارسها الدولة التركية، ففي تاريخها الحديث من أواخرا القرن التاسع العاشر وبدايات القرن العشرين ارتكبت تركيا أكبر المجازر والإبادات في الشرق الأوسط، من خلال الفرق الحميدية أو الخيّالة الحميدية التي أسسها السلطان العثماني عبد الحميد الثاني (عبدول اللعين) في عام 1890، لإبادة المكونات من الإزديين والأرمن والأشور والسريان في عموم تركيا والمسيحيين من الروم الأرثوذكس في إسطنبول، وأدعَ السلطان العثماني حينها بأن هذه الفرق تأسست بهدف حراسة الحدود الشرقية والجنوبية للبلاد ويقصد بها باكور كردستان, إنما الهدف كان اقتلاع هذه المكونات من جذورها الجغرافية بإبادتهم وترحيلهم، حيث قتلت الخيّالة الحميدية حوالي مليون ونصف مليون أرمني و هجّرت من تبقى منهم إلى خارج وطنهم، ومن أبرز تلك المجازر مجزرة جبل وان التي تعتبر من أسوأ المجازر التي ارتكبت بحق الأرمن، ومجزرة مدينة آمد التي طالت السريان حيث تم محوهم بوحشية ليس لها نظير ومجزرة مرعش أيضاً، وجدير بالذكر بأن لرجال الدين والأئمة اليد الطولى فيما حدث حيث قام أحد الأئمة بإهداء كتاب منسوب زوراً إلى إمام علي لعبد الحميد محدداً فيها بيت شعر جاء فيه (ويحترق الأرمني الخبيث     بما كان أضمره فأستعر).

ولتبرئة نفسها أمام الرأي العالمي، نفت السلطنة العثمانية صلتها بالمجازر التي حدثت حيث اتهمت الفرق الحميدية بذلك، وأن الفرق قامت بإجراءات احترازية دون الرجوع إليها وخارج مسؤوليتها نظراً لتمتع العشائر والإمارات هناك بنوع من الاستقلالية، ولكن الحقيقة هي  أن السلطنة أعدت تلك الخطة المنهجية ومارست التطهير العرقي عبر هؤلاء المرتزقة من الخيّالة الحميدية التي شكلتها من المكونات التي كانت خاضعة للسلطنة العثمانية آنذاك وذلك لخلق نوع من الفتنة بين تلك المكونات وتنفيذ اجنداتها ، وتتماثل هذه المقاربة إلى حد كبير مع ما يقوم به المرتزقة بما يسمى بالجيش الوطني السوري بحق المكونات في شمال سوريا في سري كانيه وكري سبي وعفرين من إبادة وطمس التاريخ  من خلال سرقة الآثار ونقلها إلى تركيا وتدمير المواقع الأثرية وكذلك إبادة الحاضر بحرق المدن والقرى وتهجير الشعب منها بحجة محاربة الإرهاب، لذلك ما تقوم بها هذه الفرق المرتزقة بقيادة الفاشية التركية الخضراء شبيه لما قامت بها الخيّالة الحميدية المرتزقة للسلطنة في تلك الفترة، ومن الوارد جداً أن تقوم الدولة التركية كذلك بتبرئة نفسها من سياساتها في شمال سوريا بحجة أن السوريين أنفسهم كانوا يحاربون بعضهم البعض، نظراً لوجود إدانة دولية للإبادة الأرمينية على يد العثمانيين هذا من جهة، و من جهة أخرى ترويج أردوغان للمنطقة الآمنة لإعادة السوريين إليها وفي هذه الحالة لابد من خلق الاستقرار والأمن في هذه المنطقة إذا ما تحققت الرغبة التركية. ولتحقيق هذا الاستقرار لا بد من وجود قوات نظامية قادرة على استتباب الأمن، ولكن هذه الفصائل المرتزقة العاملة تحت رعايتها ستشكل تحدياً كبيراً لها لذلك من الممكن التخلص منهم وتبرئة نفسها من تلك المجازر والانتهاكات التي ارتكبتها من خلال عمليات نبع السلام وغصن الزيتون ودرع الفرات.

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى