دور المرأة في مناطق الإدارة الذاتية مقارنة مع المناطق الأخرى

لطالما كانت المرأة السورية رقماً صعباً في معادلة الحياة اليومية، لكنّها ظلّت مغيّبة عن مراكز القرار، تدفع ثمن منظومة سياسية واجتماعية كرّست التهميش ووظّفته كأداة لفرض السيطرة؛ ففي ظل النظام السوري البائد وُضِعت المرأة على هامش المؤسسات الإدارية والسياسية، ورغم الشعارات التي كان ينادي بها النظام البعثي حول “تحرّر المرأة” ” والمساوة” إلّا أنّه استخدمها كصورة في المناسبات الإعلامية دون تمكين حقيقي؛ وبذلك عانت النساء في سوريا من محدودية الفرص، وهيمنة الذهنية الذكورية، وندرة وجودها في مجالات السياسة والاقتصاد والأمن، وكانت نسبة مشاركتهنّ في المؤسسات قبل عام 2011 لا يتجاوز 13% لأنّها كانت تعاني من تمييز ممنهج في قوانين الأحوال الشخصية، ومن حرمان غير مباشر من الفرص القيادية، وسط ثقافة ذكورية مدعومة من النظام البائد، حيث تمّ إقصاؤها من المجالات العسكرية والأمنية، وتمّ حصرها في وظائف تقليدية كالتعليم والتمريض، دون أن يكون لها تأثير حقيقي في مجال صنع القرار.
ومع اندلاع الأزمة السورية عام 2011 لعبت المرأة دوراً كبيراً في الحراك السلمي، لكن سرعان ما تحوّلت إلى هدف مباشر لأدوات القمع وترهيب المحتجّين، فقد وثّقت منظّمات حقوقية الآلاف من حالات الاعتقال والاغتصاب والتعذيب بحق النساء في الفروع الأمنية التابعة لنظام الأسد، وخلال سنوات الحرب أصبحت المرأة ضحية تم استغلالها من قبل العديد من الأطراف التي استغلّت حاجتها والفوضى التي عصفت بالبلاد وتمّ استخدام الدين كستار لاستعبادها، واجهت فقدان المعيل، وعانت من النزوح والمخيّمات وزواج القاصرات وتدهور الوضع الاقتصادي؛ ومع كل ذلك القهر والتهميش برزت نماذج لنساء ملهِمات أسّسن مبادرات مدنية وإغاثية في مناطق النزاع وخارجها متحديات القوالب التقليدية المفروضة عليهنّ.
ولكن في شمال وشرق سوريا كان الأمر مختلفا تماما؛ فمنذ إعلان تأسيس الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال وشرق سوريا عام 2013، بدأت ملامح تحوّل غير مسبوق في موقع المرأة داخل المجتمع السوري، اعتمد هذا النموذج على مبدأ التشاركية، الذي يفرض أن يتولّى كل موقع قيادي أو إداري قيادة مشتركة “رئاسة مشتركة” بين امرأة ورجل؛ وهو ما ضمن تمثيلاً فعلياً ومتوازناً للمرأة في مختلف مفاصل صنع القرار.
ولهذا أجرينا مقابلات مع بعض النساء اللواتي يتبوّأن مراكز قيادية في كافة المجالات السياسية والعسكرية والتربوية والاقتصادية في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، لنسلّط الضوء على دور المرأة في مناطق الإدارة الذاتية مقارنة مع المناطق الأخرى وكيف أنّ المرأة أخذت دورها القيادي والريادي في الإدارة الذاتية والقوات العسكرية.
سما بكداش، عضوة في حزب الاتحاد الديمقراطي، وتشغل منصباً سياسياً في الحزب، تحدّثت عن وضع المرأة في عهد النظام البائد وفي المناطق المحتلة، كما تحدّثت عن مشاركة المرأة في الحياة السياسية في شمال وشرق سوريا؛ فقالت:
“النظام السوري لم يوفّر أي حماية قانونية حقيقية للنساء، بل كانت القوانين مستمدّة من ذهنية قومية وذكورية، ولم تكن هناك أي جهة مستقلّة تدافع عن حقوق المرأة. حتى الاتحاد النسائي كان تابعًا لحزب البعث، وهدفه ضبط النساء سياسيًا وليس تمكينهنّ، وقد تم حلّه لاحقًا عام 2017. النساء اللاتي تبوّأن مناصب داخل النظام كنّ جزءًا من المنظومة السلطوية الذكورية، ولم يمثّلن إرادة نسوية مستقلّة”.
بعد اندلاع الثورة، خرجت النساء إلى الشارع وطالبن بالحرية والعدالة، لكن غابت عن أغلب الكيانات السياسية رؤية واضحة لتنظيم النساء. أمّا في شمال وشرق سوريا، فالوضع كان مختلفًا؛ تقول سما: “إنّ النساء بدأن بتنظيم أنفسهن منذ عام 2005، عبر مؤتمر ستار، وكنّ في طليعة الثورة منذ بدايتها؛ حيث أسّسن نموذجًا خاصًا يُعرف اليوم بـ”ثورة المرأة” في روجافا”.
تصف سما هذه التجربة بأنّها رائدة، إذ شاركت النساء في بناء مؤسسات الإدارة الذاتية، وتولّين مواقع القيادة عبر نظام الرئاسة المشتركة، وكنّ فاعلات في الدبلوماسية والدفاع، ونجحن في صدّ هجمات داعش، بل وشاركن في خطوط النار الأولى. وتشير إلى حادثة بارزة عندما دافعت النساء عن سد تشرين وقمن بحمايته من القصف التركي، رغم خطورة الموقف.
فكر السيد عبد الله أوجلان أساس حرية المرأة
ترى سما أنّ “هذه الإنجازات ليست لحظة عابرة، بل نتيجة وعي وتراكم فكري وتنظيمي مستمرّ، متأثّر بفكر القائد عبد الله أوجلان الذي وضع حرية المرأة في صلب مشروع الحرية المجتمعية”. وترى أيضاً أنّ “النساء في روجافا لا يقمن بإدارة المؤسسات فحسب، بل يعملن على بناء نظام جديد قائم على الشراكة والمساواة، وتجربتهن باتت تُدرّس عالميًا.”
وتختم حديثها بأنّ هذه التجربة، التي انطلقت من المرأة الكردية، أصبحت ملهمة لكلّ مكوّنات المنطقة، وتطمح النساء اليوم لصياغة عقد اجتماعي خاصّ بهنّ، يُرسّخ ما حقّقنه ويضمن استمرار دورهن في مستقبل سوريا.
المشاركة الجوهرية للمرأة في الإدارة الذاتية
شغلت النساء مناصب قيادية في المؤسسات السياسية، والإدارية، والعسكرية، إلى جانب المجالس المحلية والهيئات المدنية. وتجاوزت نسبة تمثيل النساء في مؤسسات الإدارة الذاتية 50%، في سابقة فريدة على مستوى سوريا والمنطقة.
إضافة إلى ذلك، أُنشِئت “هيئة المرأة” كمؤسسة مستقلة تعنى بوضع السياسات الداعمة لحقوق النساء وتمكينهنّ على مختلف المستويات. وفي المجال الاقتصادي، دعمت الإدارة مبادرات تعاونية نسوية، لا سيّما في القطاعات الزراعية والحِرَفية، وساهمت في تعزيز الاستقلال الاقتصادي للمرأة، خاصة في ظل تدهور الوضع المعيشي في البلاد. كما تم افتتاح مراكز تدريب مهني مخصّصة للنساء المعيلات والنازحات، بهدف تمكينهن من دخول سوق العمل.
نوروز مسلم، الرئيسة المشتركة لهيئة المرأة تتحدّث عن وضع المرأة ومعاناتها وتهميشها من قبل النظام البائد واستغلالها من قبل الأطراف الأخرى التي استغلّت الأزمة السورية، كما تحدّثت عن تأسيس هيئة خاصة بالمرأة ضمن الإدارة الذاتية؛ فتقول:
“المرأة كانت مهمّشة بشكل كبير ولم تكن تشارك بفعالية في صنع القرار، بل كانت حاضرة بشكل رمزي أو ضمن قطاعات ضيّقة كالتمريض والتعليم. سعت الدولة القومية إلى تهميش دور المرأة بشكل ممنهج، مستخدمة القوانين والأنظمة السائدة كأداة لتكريس هذا التغييب. حتى ضمن مؤسسات الدولة، لم يكن تمثيل النساء حقيقيًا، بل كان وظيفيًا وشكليًا”.
ومع اندلاع الأزمة السورية تفاقمت هذه المآسي؛ تقول نوروز: “إنّ المرأة السورية، خاصة في المناطق التي تعرّضت للاحتلال مثل عفرين، سري كانييه وكري سبي، كانت الخاسر الأكبر؛ حيث فقدت أبناءها وزوجها، وتعرّضت للتعنيف، والاختطاف، والاغتصاب، والتهميش، وتم التعامل معها كأداة للدعاية السياسية أو كضحية صامتة. ومع ذلك، فقد برزت تجربة مغايرة في شمال وشرق سوريا، حيث بدأت المرأة، في ظلّ غياب الدولة، بالنضال من أجل استعادة حقوقها، ليس فقط عبر الاحتجاج، بل من خلال بناء مؤسّسات نسائية وتنظيمات سياسية وعسكرية ذات طابع ديمقراطي جذري”.
وتوضّح نوروز أنّ “المشروع السياسي في شمال وشرق سوريا، بقيادة النساء، قد غيّر المعادلة بالكامل؛ المرأة هنا لم تعد تابعة للرجل، بل باتت شريكة كاملة في اتّخاذ القرار، حيث تم تأسيس هيئة المرأة كمؤسسة رسمية تعنى بقضايا النساء، إلى جانب تأسيس مؤتمر ستار كإطار تنظيمي نسوي واسع. كما وُضع قانون خاص بالمرأة وآخر بالطفل، وحاليًا يتمّ إعداد مسودّة العقد الاجتماعي الخاص بالمرأة، والذي سيكون مرجعًا قانونيًا متكاملًا لضمان حقوقها، وهو مشروع يُعَدّ الأول من نوعه ليس فقط في سوريا، بل في المنطقة والعالم”.
وبحسب ما تشير إليه نوروز؛ فإنّ “أحد أهم التحوّلات هو اعتماد نظام الرئاسة المشتركة، الذي يضمن مساواة الرجل والمرأة في تولّي جميع المناصب القيادية والتنفيذية، بدءاً من الكومينات (الوحدات المجتمعية القاعدية) وحتى رئاسة الهيئات. وقد أصبح من الطبيعي اليوم، أن ترى امرأة تشغل موقع رئاسة بلدية أو هيئة، أو تقود حملة سياسية أو عسكرية.
وأضافت نوروز أنّ “تبلغ نسبة النساء ضمن الإدارة الذاتية اليوم 50% من هيئات ومؤسسات الإدارة الذاتية، ويمتلكن سلطة فعلية في صنع القرار. هذا الحضور لم يكن منحة، بل نتيجة نضال فعليّ، وُلد من رحم المعاناة والمواجهة مع الذهنية الذكورية والعنف السياسي”.
أمّا عن دور المؤسسات النسوية، فتوضح نوروز أنّها “متعدّدة الجوانب: بدءاً من التمكين الاقتصادي والاجتماعي، إلى التأهيل القانوني والنفسي، وحتى إطلاق حملات توعوية ومشاريع صغيرة لدعم النساء المعيلات والناجيات من العنف. كما أنّ هناك سعيًا مستمرًا لبناء علاقات مع الحركات النسوية داخل سوريا وخارجها لتبادل الخبرات لبناء جبهة نسوية سوريّة موحّدة.”
تلفت نوروز إلى أنّ “هذه التجربة النسوية ليست حكرًا على النساء الكرديات، بل هي تجربة جامعة، تشارك فيها نساء عربيات، وسريانيات، وآشوريات، وتركمان، وشركسيات؛ وهو ما يمنحها بُعدًا وطنيًا شاملاً، يتجاوز الطابع القومي أو الديني”. تؤكد نوروز أنّ “ما يحدث اليوم في شمال وشرق سوريا ليس مجرّد تمكين نسوي، بل هو ثورة اجتماعية تقودها النساء ضد الاستبداد، والذكورية، والعنف الممنهج”.
تختم نوروز حديثها بالتأكيد على أنّ “هذه التجربة، ورغم التحدّيات، أصبحت نموذجًا يُحتذى به داخل سوريا وخارجها، وتحمل في طياتها إمكانية بناء مجتمع ديمقراطي، تعدّدي، تشاركي، وعادل، يكون للمرأة فيه الدور الأساسي كقائدة وشريكة”.
وأمّا عن تمكين المرأة اقتصادياً؛ فتقول سمر العبدالله، الرئيسة المشتركة لهيئة الاقتصاد والزراعة في شمال وشرق سوريا:
“إنّ مشاركة النساء في الحياة الاقتصادية كانت محدودة في ظل حكم حزب البعث، رغم وجودهن في بعض قطاعات الدولة”. وأوضحت أنّ “العادات والتقاليد المتجذّرة في المجتمع السوري، بالإضافة إلى التمييز في القوانين والفرص، كانت من أبرز العوائق التي منعت المرأة من الوصول إلى مواقع صنع القرار أو الانخراط الكامل في سوق العمل.” وأكّدت العبدالله أنّ “النساء كنّ حاضرات في مجالات مثل التعليم وبعض الوظائف الحكومية، لكن مشاركتهنّ لم تكن فعّالة بالشكل المطلوب، وكان الدعم الحكومي لهن غالبًا شكليًا، محصورًا في ورش خياطة أو أنشطة محدودة لا تعبّر عن تمكين حقيقي. كما أنّ كثيرًا من المناطق كانت محرومة من أبسط أشكال التمكين؛ ما أدّى إلى تفاوت كبير في فرص النساء داخل البلاد.”
وتكمل السيدة سمر العبدالله حديثها بأنّه “مع اندلاع الصراع في سوريا، ازدادت التحدّيات أمام النساء، خصوصًا مع اتّساع رقعة النزوح وفقدان المعيل في كثير من العائلات. وجدت النساء أنفسهن مضطرّات للعمل في ظروف قاسية، وأحيانًا في مجالات لا تتناسب مع مؤهّلاتهن، فقط من أجل تأمين لقمة العيش.” وأشارت العبدالله إلى أنّ “العديد من النساء المؤهّلات لجأن إلى العمل في بيع الخضار أو منتجات الألبان بسبب غياب الفرص الوظيفية المناسبة، لا سيّما في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، والتي شهدت انتشار المحسوبيات في مؤسسات المجتمع المدني؛ ما جعل النساء ذوات الكفاءة عاجزات عن الحصول على وظائف لائقة”.
أمّا في مناطق الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، فقد شهدت النساء تجربة مختلفة كلّيًا؛ حيث أتاحت الإدارة الذاتية لهنّ مساحة واسعة للمشاركة في الحياة الاقتصادية. أكّدت سمر العبدالله أنّ “الإدارة عملت على تعزيز دور المرأة من خلال دعمها في تأسيس مشاريع تعاونية، وزراعية، وخدمية وصناعية، مع توفير قروض ومنح بفوائد منخفضة، وتقديم برامج تدريبية متخصّصة في مجالات الإدارة والتسويق والمالية. كما سعت لتبسيط الإجراءات القانونية وتوفير البُنى التحتية الملائمة، مثل مراكز الأعمال ومساحات العمل المشتركة”.
وفي هذا السياق؛ تولي الإدارة الذاتية أهمية خاصة لحماية حقوق المرأة في سوق العمل؛ حيث أقرّت قانون العمل الموحّد الذي ينصّ على تحقيق المساواة الكاملة بين الجنسَين في التوظيف، والأجور، والمكافآت والإجازات. يمنع هذا القانون أي شكل من أشكال التمييز على أساس الجنس أو الانتماء، ويكفل للمرأة بيئة عمل تحترم كرامتها وتضمن فرصًا متكافئة. كما تجرم الإدارة جميع أشكال العنف والتمييز ضدّ المرأة، وتعتبر التمييز جريمة يعاقب عليها القانون؛ ومن خلال هذه القوانين، تسعى الإدارة إلى ترسيخ العدالة الاجتماعية وتعزيز مشاركة المرأة في مختلف القطاعات الاقتصادية والسياسية، وقد انعكست هذه السياسات إيجابيا على الأسرة والمجتمع؛ حيث ازدادت مشاركة النساء في العمل الجماعي والتعاوني، وساهمن في تأسيس جمعيات تعاونية ناجحة في مجال الزراعة والخدمات والصناعة. هذه المشاريع لم تسهم فقط في تمكين المرأة اقتصاديًا، بل ساعدت أيضًا في تقليص معدّلات البطالة وتحقيق نوع من الاستقرار الاجتماعي والمعيشي في ظل الظروف الصعبة التي تمرّ بها البلاد.
وفي ختام حديثها، شدّدت سمر العبدالله على أهمية استمرارية هذه التجربة وتطويرها، مشيرة إلى أنّ تمكين المرأة اقتصادياً لا ينعكس فقط على النساء أنفسهن، بل يساهم بشكل مباشر في بناء مجتمع أكثر توازناً وعدالة، ويؤسّس لاقتصاد محلّي قويّ قائم على المشاركة والمساواة.
لم يكن المجال التربوي بأفضل من المجالات الأخرى التي ذكرناها في عهد النظام البائد وفي المناطق التي لا تخضع لسيطرة النظام؛ حيث استمرّ تهميش المرأة في المجال التربوي والتعليمي أيضاً، عدا مناطق الإدارة الذاتية التي كانت للمرأة مشاركة فعّالة وكبيرة. وفي هذا السياق تحدّثت سميرة حاج علي، الرئيسة المشتركة لهيئة التربية والتعليم في شمال وشرق سوريا، فقالت:
“المرأة، وخاصة المعلّمة، كانت مهمّشة في ظل حكم النظام السوري البعثيّ. فرغم وجودها في المؤسسات التعليمية، إلّا أنّ دورها كان شكليًا ووظيفيًا فقط، دون تمكين حقيقي أو مشاركة في صنع القرار. لم يكن يتمّ الاعتراف بخصوصية المرأة ولا بكفاءتها القيادية، بل كانت تُعامَل كموظّفة خاضعة للنظام الأبوي، محرومة من التعبير أو التأثير، سواء في التعليم أو في المجتمع الأوسع، وكان يُنظر إليها إمّا كربّة منزل أو كعاملة لا تتجاوز دورها التقليدي.”
وتتابع سميرة حديثها عن وضع المرأة في المناطق المحتلة (كعفرين، سري كانييه، وكري سبي) قائلة: “تتعرّض المرأة هناك للتضييق الديني والطائفي، وتُفرض عليها قيود اجتماعية قاسية، بما في ذلك اللباس وسلوكها العام، وتُحرَم عليها ممارسة التعليم بحرية أو المساهمة في تطوير المجتمع في هذه المناطق، تسهم المرأة أحيانًا، بقصد أو دون قصد، في مشاريع التغيير الديمغرافي؛ حيث يتم استخدام النساء كجزء من منظومة الاحتلال لفرض واقع جديد عبر استيطان وتبديل سكاني ممنهَج. المرأة هناك أصبحت أداة تُسخّر ضمن مشروع الهيمنة، بدل أن تكون عنصرًا محرّرًا كما هو الحال في مناطق أخرى.”
أمّا في مناطق الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، فالوضع مختلف تمامًا. تؤكد سميرة أنّ “المرأة هناك تمكّنت من كسر القوالب النمطية، بفضل ثورة 19 تموز وفكر القائد عبد الله أوجلان، الذي منح للمرأة مكانة مركزية في مشروع الأمة الديمقراطية، والمرأة المعلمة أصبحت شريكة في القيادة، وتشارك في صنع القرار التربوي والسياسي، وتقود مؤسسات تعليمية، وتدير رياض الأطفال، وتخضع لدورات تدريبية متخصّصة في الجينولوجيا (علم المرأة)، ومهارات الإدارة، والتعليم التحرّري.
وتشير إلى أنّ “النساء في شمال وشرق سوريا لهن دور فعّال في بناء نظام تربوي ديمقراطي يكرّس قيم الحرية، والمساواة، والتعدّدية، بالتعاون مع كافة المكوّنات القومية والدينية. المرأة هنا، وبالذات المعلّمة، أصبحت رمزا للتغيير الإيجابي، ونموذجًا يُحتذى به في باقي مناطق سوريا.”
وترى سميرة أنّ “التجربة التعليمية في الإدارة الذاتية يمكن أن تُلهم النساء في باقي أنحاء البلاد، حيث أصبحت المرأة المعلّمة أداة لتحرير العقل، وإعادة بناء المجتمع على أسس تشاركية، بعيداً عن الذهنية الذكورية التي سادت لعقود.”
المجال العسكري يُعتبَر من المجالات الحسّاسة التي كان يحرم على المرأة الخوض أو حتى التفكير فيه، لكن في شمال وشرق سوريا كانت المرأة سبّاقة في المجال العسكري وحمل السلاح والدفاع عن وجودها وأرضهن وكرامتها، فأسّست قوات خاصة بها باسم وحدات حماية المرأة، والتي شكّلت نقطة مفصلية في إعادة تعريف صورة المرأة السورية. إذ لم تكتف النساء بالمشاركة، بل قُدن معارك حاسمة ضد تنظيم داعش، وحقّقن حضوراً دولياً باعتبارهن رمزاً للمقاومة والحرية، وفي هذا السياق تقول الناطقة باسم وحدات حماية المرأة السيدة روكسان محمد:
“كثيراً ما عانت المرأة في مجتمعاتنا من قيود المجتمع الذكوري الذي حاول حصر دورها داخل البيت، ومنعها من المشاركة في صنع القرار. ورغم ذلك، كانت المرأة جزءًا من الثورات والنضالات، لكنّها لم تستطع تحقيق حريتها الحقيقية بسبب غياب التنظيم والوعي اللازمَين”.
في كردستان، وفي شمال وشرق سوريا تحديدًا، أخذت المرأة دورًا فاعلًا في مقاومة الاحتلال، لكنّها أدركت أنّ حمل السلاح وحده لا يكفي، بل لا بدّ من وجود وعي فكري وتنظيم محكَم. فبدأت الحركات النسائية تربط بين تحرير المرأة وبناء مجتمع حرّ وعادل، فكان النضال نسويًا وفكريًا وعسكريًا في آنٍ واحد. فكر القائد عبد الله أوجلان وضع قضية المرأة في صلب النضال؛ ممّا دفع النساء لتلقّي تدريبات فكرية وعسكرية، وللانخراط في المعارك بقيادة المرأة نفسها.
أكدت روكسان محمد أنّ انخراط المرأة في حمل السلاح كان ضرورة فرضتها الظروف القاسية التي فرضها النظام السابق، الذي حاول حصر المرأة في دورها التقليدي وجعلها تفكر فقط في لقمة العيش. مع اندلاع الثورة، أدركت المرأة أن تحريرها مرتبط بالتنظيم الذاتي والدفاع عن النفس، وهذا ما دفعها إلى تشكيل وحدات حماية المرأة، حيث بدأت ببضع نساء، ثم توسّعت لتصبح قوة تنظيمية وعسكرية متكاملة.
ما يميّز وحدات حماية المرأة في شمال وشرق سوريا هو التنظيم الذاتي الكامل، والتدريب الفكري والعسكري الذي يتناول تاريخ المرأة وقضاياها، وهو ما يختلف تمامًا عن الجيوش التقليدية التي لا تعطي المرأة دورًا قياديًا حقيقيًا ولا تخصّص لها تنظيمًا خاصًا أو تدريبات فكرية، بل تظلّ المرأة فيها مجرّد جزء تابع للقيادة الذكورية.
المرأة في شمال وشرق سوريا لا تحارب فقط بالسلاح، بل تحمل سلاحها كرمز للحماية والحرية، وهي تقاتل من أجل السلام والديمقراطية، وليس لسفك الدماء. لقد أثبتت وحدات حماية المرأة حضورها القيادي في معارك كبرى مثل كوباني وسري كانييه، حيث قادت المرأة المعارك وكسرت أسطورة أنّ الحرب فقط للرجل. هذه المعارك كانت نقاط تحوّل في النضال النسائي، حيث دخلت المرأة المعركة بإرادة لا تنكسر رغم كل التحدّيات.
اليوم، قوات حماية المرأة ليست فقط قوة عسكرية، بل هي حركة فكرية وتنظيمية مستمرة في التطوّر، تعيد بناء ذاتها، وتوسّع دورها لتشمل جميع المجالات، وهي القوة التي تؤمن بأنّ نضال المرأة هو مفتاح التغيير الحقيقي في المجتمع.
شاركت قوات حماية المرأة في جميع المعارك الكبرى شمال وشرق سوريا، من تل كوجر وسري كانييه إلى كوباني والرقة ودير الزور والهول، بما فيها الحملات الأمنية الخاصة ضد تنظيم داعش، وخاصة في مخيّم الهول. وتميّزت مشاركتها بطابع إنساني فريد أعاد تعريف أخلاقيات الحرب؛ حيث لعبت المرأة دوراً قيادياً حافظ على المعايير الأخلاقية ومنع الانتهاكات.
ساهم هذا الحضور العسكري الفاعل في كسر الصورة النمطية عن المرأة، خاصة في المجتمعات التي كانت ترى القتال حكراً على الرجال. ورغم العوائق الاجتماعية والدينية والعائلية، استطاعت المرأة عبر مشاركتها الفعلية أن تثبت قدرتها على الدفاع والتضحية، بل وأن تكون مصدر إلهام ونموذجاً يُحتذَى به. وقد ساهمت بطولات مقاتلات كُرديات، مثل ما حدث في منبج وسد تشرين، في خلق وعي جديد داخل المجتمع حول دور المرأة القيادي والعسكري؛ وهو ما شجع كثيراً من العائلات على إرسال بناتهن طوعاً إلى صفوف القوات.
كما أنّ وحدات حماية المرأة باتت تضمّ نساءً من مختلف المكوّنات: الكرد، والعرب، والسريان، والأرمن، والتركمان؛ ما يعكس شمولية المشروع ووحدته. وتؤكّد القوات أنّ الحماية ليست فقط عسكرية بل فكرية ونفسية، وأنّ استمرار النضال ضرورة لمواجهة الانتهاكات المتكرّرة بحق النساء، كما حصل مؤخّراً في الساحل السوري، حيث دعت كثير من النساء لتعلّم أساليب الدفاع الذاتي وتشكيل معسكرات تدريبية، وهو ما تراه القوات خطوة مشروعة وأساسية.
عانت المرأة طويلاً من التهمش والتمييز والعنف، خاصة في سوريا، حيث تفاقمت معاناتها مع الحرب والنزاعات لتدفع الثمن الأكبر بفقدان أمانها وحقوقها. ولكن تجربة الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا أحدثت تحوّلاً لافتاً وكبيراً في هذه المعادلة، حيث فتحت المجالات أمام المرأة للمشاركة الفاعلة في جميع المجالات من خلال الرئاسة المشتركة التي سمحت لها أن تكون شريكة وفاعلة في صنع القرار، ورغم كلّ التحدّيات والسياسات الممنهَجة التي تمّ اتباعها لطمس إرادة المرأة، إلّا أنّ هذه التجربة أثبتت أنّ المرأة إذا أُتيحت لها الأدوات والمساحة الكافية فستستطيع إثبات نفسها في جميع المجالات، وتكون شريكة حقيقة وفاعلة في مجال صنع القرار.