ظاهرة الانتحار في كوباني … الأسباب والحلول

تُعَدّ ظاهرة الانتحار من أخطر الظواهر الاجتماعية والنفسية التي تعكس خللاً عميقًا في البنية المجتمعية والنفسية للفرد، وهي ليست مجرّد فعل فردي أو قرار لحظي، بل نتيجة لتراكمات معقّدة من الألم والصراعات الداخلية والضغوط الخارجية التي يعجز الإنسان أحيانًا عن مواجهتها.

 يُعرّف الانتحار بأنّه إقدام الفرد على إنهاء حياته بشكلٍ متعمَّد، وغالبًا ما يكون نتيجة للشعور بالعجز وفقدان الأمل والإحساس بعدم وجود بدائل أو فرص للخلاص من المعاناة. ورغم أنّ هذه الظاهرة قديمة قِدَم البشرية، إلّا أنّها بدأت تتّخذ أبعادًا أكثر خطورة وتعقيدًا في المجتمعات العالمية التي تحاول إيجاد الحلول لهذه الظاهرة.

في الفترة الأخيرة شهدت مدينة كوباني والقرى المحيطة بها تزايداً في حالات الانتحار في ظل ظروف الحرب والنزوح، وذلك مع تراجع برامج الدعم النفسي والاجتماعي؛ ما يجعل المرأة الحلقة الأضعف أمام تراكم الأعباء والضغوطات، ورغم أنّ النساء في شمال وشرق سوريا قد حقّقن إنجازات ملموسة في مجالات متعدّدة، إلّا أنّ التحدّيات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ما زالت تقف عائقًا أمام بناء حياة متوازنة ومستقرّة للعديد منهنّ.

ولتسليط الضوء على هذه الظاهرة، قام مركز روج آفا للدراسات الاستراتيجية بإعداد هذا التقرير من خلال التواصل وإجراء المقابلات مع هيئات معنية بشؤون المرأة، لمتابعة حالات الانتحار، وفهم أعمق للأسباب والدوافع، والوصول إلى اقتراحات عملية للحدّ من انتشار هذه الظاهرة. اعتمدنا خلال إعداد هذا التقرير على مقابلات مباشرة مع مسؤولات وناشطات ومرشدات اجتماعيات، إضافة إلى شهادات من أسر الضحايا، ومعطيات من مراكز الدعم النفسي، لتكوين صورة أكثر شمولًا للواقع القائم.

نهدف من خلال هذا التقرير إلى تسليط الضوء على حجم المعاناة الخفية التي تعيشها كثير من النساء، وتحفيز الجهات المعنية للعمل المشترك لوضع حلول متكاملة تعتمد على الوقاية والدعم النفسي والاجتماعي والاقتصادي؛ فمواجهة الانتحار لا تكون بالعلاج فقط بعد وقوعه، بل تكون من خلال خلق بيئة آمنة وعادلة تمنع أسبابه وتدعم مَن يشعرون بالضعف واليأس ليتحوّلوا إلى أشخاص فاعلين قادرين على مواجهة الحياة لا الهروب منها.

  وللوقوف عند هذه الظاهرة عن كثب تواصلنا مع السيدة “هويدا محمد ” نائبة هيئة المرأة في مقاطعة الجزيرة، وذلك لمعرفة أسباب انتحار المرأة، والاستفسار عن الحلول التي يسعون إليها للحد من هذه الظاهرة. تقول السيدة “هويدا “: لظاهرة الانتحار أسباب عديدة، ومنها: أولاً الوضع الاقتصادي الصعب الذي تتعرّض له المنطقة وقد يشكّل ضغطاً نفسياً على الناس؛ وذلك بسبب هجمات الاحتلال التركي التي منعت الاستقرار في المنطقة، وبالتحديد في مدينة كوباني، وقد تسبّب ذلك بالنزوح وتفاقم المشكلات وعدم التأقلم؛ ممّا أدّى إلى تفكير بعض النساء في إنهاء حياتهنّ من خلال الإقدام على الانتحار حينما وجدن أنفسهنّ أمام محكّ صعب، وبالرغم من تزايد مكتسبات المرأة في مناطق شمال وشرق سوريا، وحصولها على الكثير من الحقوق والحريات، ومشاركتها الفعّالة في جميع ميادين الحياة؛ إلّا أنّ هناك ضغطاً اجتماعياً يتزايد نتيجة تراكم المشكلات المجتمعية مثل (الفقر – الطلاق – زواج القاصرات – التفكّك الأسري).

وبيّنت “هويدا” أنّ الأمراض النّفسيّة، مثل (القلق والاكتئاب واليأس وغيرها ممّا يؤدّي إلى ردّة فعل سلبية تجاه النفس، والتي تؤدّي إلى التّفكير بالانتحار والتّخلّص من الحياة)، تقتضي ضرورة المساندة والتعاون بين النساء كافة، وتقديم العون والمساعدة في مثل تلك الحالات، مع التوجيه باختيار المسار الصحيح لحل المشكلة.

 من خلال المتابعة وجدنا أنّ هناك تزايداً في حالات الانتحار منذ بداية هذا العام، وغالبية الحالات كانت في قرى كوباني، وكانت الضحايا من النساء اللاتي تتراوح أعمارهنّ ما بين ( 15حتى 24)، وقد تواصلنا مع المعنيين بهذه الحالات لمعرفة الأسباب؛ حيث قالت “جيهان درويش” رئيسة هيئة المرأة في مقاطعة الفرات: السبب الرئيسي لهذه الظاهرة هو ذهنية المجتمع، بما فيها العادات والتقاليد، والتضييق على المرأة، وزواج القاصرات، وكما ترون في الآونة الأخيرة تأثّرت منطقتنا بهجمات الاحتلال التركي أيضاً، كما أنّ الحرب الخاصة في المجتمع قد لعبت دوراً كبيراً في التأثير على عقول الشباب والفتيات من ذوي الأعمار الصغيرة، ممّن لا يعون ما يواجهونه في هذه الحياة، وقد تفاقمت المشكلات حتى تزايدت حالات الانتحار في كوباني، ظنّاً منهم أنّ الانتحار هو الحل.

وأشارت ” جيهان” إلى عمل هيئة المرأة بخصوص هذه الحالات؛ حيث توجد جهات مهتمّة بحالات الانتحار وحالات العنف ضد المرأة، ومن تلك الجهات مؤتمر ستار، ودار حماية المرأة ، وهيئة المرأة) بالإضافة إلى لجنة صوت المرأة التي تتابع هذه الحالات عن قرب لتعرف أسباب المشكلات المجتمعية التي تؤدّي إلى الانتحار، تقوم هذه الهيئات بدراسة هذه المشكلات وتعمل على وضع برنامج توعوي؛ وذلك من خلال إلقاء محاضرات حسب حاجة المجتمع وحسب ما يعانيه، ويكون ذلك في المجالس والكومينات في القرى والمدن.

أوضحت ” جيهان” أنّ مَن يحاولون الانتحار تقوم مراكز الدعم النفسي بتدريبهم، وتقوم بإجراء جلسات توعية من قبل مرشدين نفسيّين. كما بيّنت “درويش” إحصائية هيئة المرأة لهذه الحالات منذ بداية هذا العام، حيث بلغت حالات الانتحار /6/ حالات، أمّا حالات محاولة الانتحار فقد بلغت حالتين.

يقول المشرف على حالات الانتحار (أ): وردنا اتصال من مشفى أمل يفيد بوجود جثة لأحد الأشخاص في المستشفى، ونحن بدورنا توجّهنا مباشرة إلى المكان المذكور، وعند وصولنا تبيّن لنا وجود جثة لامرأة تبلغ من العمر حوالي 25 عاماً كانت قد فارقت الحياة، وبعد فحص الجثة من قبل الطبيب الشرعي تبيّن أنّها توفّيت عن طريق الحبل (الشنق)، حيث كانت الآثار واضحة حول الرقبة، وبعد إجراء التحقيقات مع جميع أفراد العائلة تبيّن أنّ المنتحرة كانت على خلاف مُسبَق مع زوجها، وتفاقمت المشاكل بينهما منذ قرابة عامين بسبب الوضع  المادي؛ حيث كان زوجها غير مبالٍ لأمور البيت فتراكمت عليهم الديون، وهي بدورها لم تتحمّل الوضع؛  فأقدمت على الانتحار عن طريق الشنق بسبب تصرّفات زوجها، وبعد ذلك تم التحقيق مع الزوج، لأنّه كان المتسبّب الرئيسي بانتحار زوجته، وتم تحويله إلى القضاء.

وتأتي هذه الحادثة ضمن سلسلة من حالات الانتحار التي شهدتها مدينة كوباني هذا العام، وهذه أسماء بعض ممّن أقدمن على الانتحار:

(نالين حمو بكي، عمرها ٢٣ سنة، كوباني – قرية بوبان)

(دوزة محمد علي، عمرها 23 سنة، كوباني – قرية شكفت غربي).

 وآخر ما تم تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي حالة انتحار لشابة من مواليد قرية مشكو في ريف كوباني، تُعرَف بأنّها الكاتبة والصحفية زيلان حمو في ظروف غامضة، ولم تحدّد العائلة أسباب الوفاة، فيما باشرت الجهات الأمنية فتح تحقيق حول هذه الحالة.

آهين عثمان، مرشدة اجتماعية في مركز الدعم النفسي في كوباني، تحدّثت عن أسباب حالات الانتحار:

توجد مشكلات مجتمعية مثل: الخيانة الزوجية، وتفاقم الوضع الاقتصادي، وعدم تحمّل الرجل لمسؤولياته تجاه عائلته، لتتحمّل المرأة الأعباء والضغوطات وتتراكم عليها من جميع النواحي؛ فتبلغ مرحلة لا تتجاوب مع أي شيء، حتى تجد الانتحار الحل الأخير أمامها.

وتحدّثت ” آهين عثمان ” عن دور دار المرأة في كوباني، حيث تتابع الدار حالات الانتحار، وتحدّثت كذلك عن دورها في هذه الحالات: حيث ترافقهم مرشدة اجتماعية لمتابعة الحالة الواردة، سواء كانت الحالة محاولة انتحار أو المرأة المعنّفة أو غيرها من المشكلات الاجتماعية.

 وعن عملهم في المركز، قالت “عثمان”: نقوم بتنظيم جلسات توعوية من خلال الكومينات، لكن ليست هناك استجابة ولا تنضمّ الفئة المستهدفة إلى تلك الجلسات؛ ونتيجة لذلك تتزايد حالات الانتحار.

وللحد من هذه الظاهرة فإنّ الجهات التي تواصلنا معها اقترحت مجموعة من الحلول؛ حيث أشارت “هويدا محمد” إلى ضرورة التنسيق والتعاون بين الهيئات والمؤسسات والمنظمات المدنية باتخاذ تدابير وقائية للحدّ من هذه الحالات، والعمل على الحدّ من فرص الوصول إلى وسائل الانتحار كالأسلحة وغيرها، والعمل على تقوية العلاقات الأسرية ومتابعة الأبناء وتعزيز التواصل والتفاهم بالحوار المستمرّ معهم، والاهتمام بميولهم واهتماماتهم والابتعاد عن أسلوب العنف والتسلّط، ورفع مستوى الوعي من خلال دورات توعية في المناطق والمخيمات، والتربية على أسس سليمة قائمة على الاحترام المتبادل، وحل المشاكل مع الشخص المناسب، واللجوء إلى المراكز المتخصّصة (النفسية والصحية) إذا لزم الأمر.

 وكمساهمة في جهود مواجهة هذه الظاهرة، قامت “هيئة المرأة ” بالتنسيق مع مراكز الدعم النفسي بحملة توعوية تتضمّن توزيع استبيانات وبروشورات، والقيام بزيارات ميدانية إلى المنازل والكومينات لرفع مستوى الوعي في المنطقة.

 وقد أكّدت “هويدا” على ضرورة التمرّد الإيجابي ووجوب أن تجد النساء حلولاً بديلة للخروج من حلقات الضغط، دون اللجوء إلى الانتحار، وأكّدت كذلك ضرورة دعم المرأة بشكل يمنع إبقاء مشكلاتها مخبّأة ضمن العائلة، حتى لا تتفاقم وتؤدّي إلى تفكيرها في الانتحار كخيار أخير.

في ضوء ما تم توثيقه واستعراضه في هذا التقرير، يتّضح أنّ ظاهرة انتحار النساء في مدينة كوباني ليست مجرّد حوادث فردية أو لحظات ضعف، بل هي نتيجة حتمية لسلسلة من التراكمات النفسية والاجتماعية والاقتصادية التي لم تعالَج، كما تبيّن أنّ النساء في هذه المجتمعات يعانين من تحدّيات مركّبة تبدأ من العنف الأسري وتنتهي بغياب شبكات الدعم والرعاية، وبين هذا وذاك تتولّد مشاعر العجز واليأس والانسلاخ عن الحياة.

ولأنّ الانتحار ليس قَدَرًا محتومًا، بل نتيجة لبيئة مأزومة يمكن تغييرها، فإنّ المسؤولية تقع على عاتق الجميع للعمل بشكل تشاركي لتوفير الدعم النفسي والاجتماعي والاقتصادي للنساء، وتكريس ثقافة الحوار والتفاهم بدل العنف والتهميش.

إنّ حماية المرأة ليست رفاهية اجتماعية، بل ضرورة أخلاقية وإنسانية، وهي اللبنة الأولى لبناء مجتمع سليم متماسك. ومن هنا؛ نؤكّد ضرورة تكثيف جهود التوعية، وتوفير خدمات الإرشاد النفسي، والضغط من أجل تطوير السياسات التي تضمن حياة كريمة وآمنة لكل امرأة، قبل أن تُدفع إلى اتخاذ القرار المأساوي بإنهاء حياتها؛ ليبقَى صوت المرأة حيًّا في معركتها من أجل الحياة، ولتُكسر دوائر الصمت واليأس بالوعي والمسؤولية والعمل الجماعي.

زر الذهاب إلى الأعلى
RocketplayRocketplay casinoCasibom GirişJojobet GirişCasibom Giriş GüncelCasibom Giriş AdresiCandySpinzDafabet AppJeetwinRedbet SverigeViggoslotsCrazyBuzzer casinoCasibomJettbetKmsauto DownloadKmspico ActivatorSweet BonanzaCrazy TimeCrazy Time AppPlinko AppSugar rush