في تركيا… حرب على السلطة أم انقلاب أردوغان
أحمد بيلدا
تقدير موقف
إنّ ما حدث بعد اعتقال رئيس بلدية استانبول أكرم إمام أوغلو وعدد كبير من رؤساء البلديات ومن السياسيين في المناطق كان بمثابة انقلاب سياسي، ورغم أنّ القوى السياسية الحاكمة تتعامل معها على أنّها مسألة قانونية إلّا أنّها في حقيقتها انقلاب ممنهَج باسم القانون؛ فمن أجل فرض سيطرته واستمراريتها ومن أجل القضاء على التحدّيات والمخاطر التي تعترضه وليتمكّن من تهيئة الظروف المواتية ليصبح دكتاتوراً يهاجم أردوغان مناهضيه ومعارضيه، وذلك من خلال الادّعاء على معارضيه واستخدام القوة والعنف من خلال قوات الأمن والشرطة؛ وقد لجأ أردوغان سابقاً إلى مثل هذه الأساليب ضدّ الجماعات المسلّحة مثل “باليوز وأرغينيكون وجماعة فتح الله غولن”، وبحجّة قضية منظومة المجتمع الكردستاني اتّبع أردوغان الأسلوب القانوني والأمني ذاته ضدّ الساسة الكرد.
آلية الانقلابات وأنواعها:
يجب تحليل آلية الانقلابات عن كثب، وقد تحدّث عنها السيّد أوجلان بشكلّ ممنهَج، وبالفعل هناك آلية فعّالة للانقلابات في تركيا، وتقريباً كلّ 10 سنوات تحدث انقلابات عسكرية أو قانونية أو استخباراتية:
* إمّا أن يسيطر الجيش على الحكم بشكل مباشر، أو أن يقوم بتنبيه الحكومة والإدارة بأنّه لم يعد بإمكانها القيام بمهامها وعليها أن تكفّ يدها عن إدارة شؤون البلاد.
* أحياناً أخرى تقوم الحكومة بوضع بعض العراقيل القانونية أمام معارضيها؛ حيث تتعرّض المؤسّسات المدنية والأحزاب السياسية والمؤسّسات المجتمعية لهجمات القوات الأمنية واعتداءاتها، وذلك عن طريق القانون بناءً على طلب جهة الادّعاء، وبالنتيجة تتمّ السيطرة على المؤسّسات، ويتمّ اعتقال مديري وأعضاء ورؤساء تلك المؤسسات.
* عدا عن ذلك؛ تقوم القوى الاستخباراتية والعسكرية والبيرقراطية والمافيوية (العصاباتية) سرّاً بمهاجمة بعضها بعضاً، وتعتمد في ذلك على الاغتيالات، وبالنتيجة تبرز حالات التهديد والقتل، وعلى الرغم من أنّ تلك الأحداث يُنظَر إليها من الناحية القانونية على أنّها جريمة تحدث بين أشخاص؛ إلّا أنّها في الحقيقة وما وراء الكواليس هي التي ترسم سياسة تركيا.
ونتيجة لجميع الانقلابات تتغيّر قوة الرأسماليين في كثير من المرّات، فمن ناحية تتمّ مصادرة أموال بعضهم والاستيلاء على ممتلكاتهم، ومن ناحية أخرى يصبح آخرون أثرياء، وهذه الأحداث التي تغيّر في رأس المال والثروة والأملاك تبدو في المجتمع على أنّها حدث بعيد عن عالم السياسة، إلّا أنّها في الحقيقة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالسياسة وتؤثّر في تركيا بشكل كبير، ولتتمكّن القوى التي تظهر على الساحة بعد الانقلاب من إعادة رسم السياسة من جديد، تقوم تلك القوى بتعيين المسؤولين والقادة، كما تقوم بالبدء بعملها على الأرض من خلال الأحزاب والانتخابات.
الانقلابات الرئيسية في تركيا
حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، أسّس مصطفى كمال وعصمت إينونو نظامًا ديكتاتوريًا وبهذه الطريقة حكما الدولة، كلاهما شنّا هجمات واسعة النطاق وارتكبا مجازر ضد الكرد، خلال الانتخابات العامة الأولى، صوّت الشعب ضدّهما وانتزع السلطة منهما، ولكن حكومة مندريس لم تكن مختلفة عنهما، وكانت تركيا قد أصبحت بالفعل عضواً في حلف الناتو، وكان نظام الانقلابات يتم تنظيمه على يد وكالة المخابرات المركزية والبنتاغون، وهذه القوى التي أنشأت قوات “كونتركريلا” حكمت الدولة من خلال النظام الخاص. إنّ انقلاب 27 مايو/أيار، ومذكرة 12 مارس/آذار، والإعلان المتكرّر لحالة الطوارئ هي أمثلة رئيسية لذلك.
إلّا أنّ انقلاب الثاني عشر من سبتمبر/أيلول الذي قاده كينان إيفرن والجيش قد أدّى إلى تغيير البنية المؤسساتية لتركيا بشكل جذريّ، وكانت هناك معارك ضارية وخاصة ضدّ الكرد. إن نظام “OHAL” أي منطقة الطوارئ، وإنشاء الاستخبارات العسكرية (JÎTEM) في كردستان، وإنشاء مجموعات الفرق الخاصة، قد أدى إلى عسكرة الاقتصاد والسياسة الاقتصادية بأكملها.
بعد انقلاب 12 سبتمبر 1980، واغتيال أوزال، واستيلاء تشيلر- أغار وغوريش على إدارة القوات الخاصة، حدث انقلاب آخر؛ حيث تم إحراق وإخلاء أكثر من 4000 قرية كردية، كما تمّ إخفاء وقتل أكثر من 17 ألف كردي، وسُجّلت القضية على أساس “ضدّ مجهول”، لقد تم نفي الشعب الكردي وقتله بشكل ممنهَج.
وفي هذه الأثناء، تم تعزيز قوى المافيا العنصرية أيضًا؛ حيث قامت تلك القوى بتهديد الشعب ورجال الأعمال والسياسيين وإجبارهم على دفع الجزية بالإكراه والقوة، ومن خلال تحالف العسكر والسياسيين قامت أيضاً بممارسة تجارة الأسلحة والمخدّرات والحشيش؛ فزادت ثرواتها ورؤوس أموالها، والآن باتت تطلق التهديدات مثل رجال الأعمال.
في 28 فبراير/شباط 1997، صدر تحذير يشبه الانقلاب ضد أربكان؛ وهذا ما أُجبره على الابتعاد عن عالم السياسة، كانت هذه هي المرة الأولى التي يتولّى فيها أربكان رئاسة الوزراء، وقد أرسل رسالة إلى القائد أوجلان وأراد اللجوء إلى الوسائل السلمية؛ ولكن بالنتيجة تمّ استبعاده عن الساحة السياسية، وحدث انشقاق داخل صفوف حزبه، حيث تخلّى أردوغان وحلفاؤه عن أربكان.
بقيت إدارة أجاويد في مواجهة انقلاب لنحو ما يقارب خمس سنوات، وكان من المتوقّع أن تقوم الدولة التركية بعد المؤامرة التي استهدفت السيّد أوجلان باتّخاذ بعض الخطوات الديمقراطية لحلّ القضية الكردية، لكن أجاويد ظلّ يماطل، كما ماطل الكماليون والجيش المعارض أيضًا وعرقلوا العملية من أساسها، وعن طريق الرئيس تمّ وضع العراقيل أمام ممارسته لعمله، وبرزت أزمة اقتصادية كبيرة، وهو ما أجبر أجاويد على الاستقالة.
الانقلابات والصراع على السلطة في عهد أردوغان:
بات الطريق مفتوحاً أمام أردوغان من مختلف النواحي، وبدعم من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، تمكّن أردوغان من استجماع قواه؛ فبدأ بحملة ضد الجيش والبيروقراطيين الكماليين خلال عامَي 2007 و2008، فانقلابا “أرغينيكون” و”باليوز” هما أشهر انقلابين، وقد بدا واضحاً أنّ الانقلابيّين كانوا يخطّطون أيضًا للإطاحة بأردوغان عن السلطة من خلال انقلاب؛ وخلال صراعهم على السلطة، قُتل العديد من الجنود والبيروقراطيين والشرطة تحت مُسمّى حوادث المرور والانتحار والاغتيالات، في هذه الأثناء، كان أردوغان وغولن شريكَين وقاما بتنفيذ العمليات باستمرار؛ حيث تم إلقاء القبض على العديد من الأشخاص وتمّت محاكمتهم لسنوات، إلّا أنّ الطرفَين ومن ناحية أخرى، بعد قبولهم لقيادة أردوغان وقبول أردوغان لشروطهم، تفاوضا أيضًا مع بعضهما بعضاً.
وهذه المرة، وبمساعدتهم، بدأ أردوغان بانقلاب آخر؛ بمعنى آخر، قام أردوغان، وبمساعدة منظمة أرغينيكون الكمالية، بمهاجة الكرد وارتكب المجازر بحقّهم، وخاصة في المدن؛ ومن ثم قام بتعيين وكلاء “قيّوم” على البلديات.
ثم توجّه أردوغان إلى جماعة غولن، لتندلع بين الطرفين معركة حامية الوطيس على السيادة والسلطة، ولم يكن أردوغان وحيداً في مواجة غولن؛ فإلى جانب تحالفه مع أتباع حركة أرغينيكون الكمالية حصل على دعم حزب الحركة القومية والقوميين المتشدّدين أيضاً؛ والآن بات من السهولة بمكان عليه أن يواجهّ حليفه السابق جماعة فتح الله غولن ويقاتل ضدّها، لكنّ جماعة غولن أيضاً لم تقف موقف المتفرّج ولم تبقَ مكتوفة الأيدي؛ حيث كانت تخطّط لإزاحة أردوغان من منصبه لتتولّى الجماعة قيادة الحكومة.
كثّفت كلتا القوّتين هجماتهما وقامتا بانقلابات كبيرة ضدّ بعضهما بعضاً؛ بالنتيجة انتصر أردوغان وألحق خسائر فادحة بالجماعة، وبعد ذلك، سارع أردوغان خطواته وهاجم قوات المقاومة الكردية؛ فاحتلال عفرين وسري كانيه وكري سبي هي أمثلة واضحة، وهنا لم تعد هجماته ضدّ حركة الحرية مقتصرة على جنوب كردستان أو منطقة الدفاع المشروع.
اقتصاد الحرب والأزمة المجتمعية:
لقد أصبحت تركيا في عهد أردوغان دولة عسكرية بكلّ المقاييس، وباتت جميع الخطط والمشاريع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للدولة توضع وفقاً لاحتياجات الحرب ومقتضياتها، وبالإضافة إلى المنظومة العسكرية التركية، فقد تمّ تشكيل القوات شبه العسكرية أيضًا وعصاباتٍ تابعة لها في سوريا والعراق وأجزاء أخرى من العالم، كما أقامت علاقات التعاون الاستخباراتي والعسكري والاقتصادي مع تنظيمات مثل داعش وهيئة تحرير الشام، وعدا عن محاربة الكرد، فقد أرسلت عصابات المرتزقة، وخاصة تلك التابعة لها، إلى العديد من أجزاء العالم، وخاضت الحروب هناك؛ فقد شاركت تلك العصابات في الحروب – إمّا بشكل مباشر أو من وراء الكواليس – في أذربيجان وأرمينيا وليبيا والسودان، وفي أماكن أخرى كثيرة.
إلّا أنّ ذلك لا يعني أن أردوغان والقوات المتحالِفة معه قد انتصروا في كل الميادين؛ خصوصاً أنّ المقاومة الاجتماعية والسياسية والعسكرية في روج آفا، والمقاومة في جنوب كردستان (باشور) بقيادة حركة الحرية، قد ألحقت أضراراً جسيمة بالدولة التركية وكبّدتها خسائر فادحة، ومع كل ذلك فإنّ إرادة قوات المقاومة لم تنكسر، وطالت مرحلة الحرب، وتشكّلت تحالفات عسكرية واجتماعية وسياسية واقتصادية مع الكرد؛ بل على العكس من ذلك، فقد بات العبء الاقتصادي على تركيا أثقل ممّا كان عليه سابقاً، لأنّ تركيا قد خطت خطواتٍ تتجاوز قدراتها الاقتصادية؛ فقد ارتفعت تكاليف توفير الإمدادات الغذائية، وتأمين الأسلحة، ورواتب الجنود وعصابات المرتزقة، ولم يعد الاقتصاد العام للبلاد قادراً على تحمّل هذا العبء الثقيل؛ لقد دخل الاقتصاد التركي حالة من الركود في جميع المجالات ووقع في أزمة كبيرة لا نهاية لها؛ فبدلاً من دعم وتشجيع الصناعة والزراعة والتجارة وتقديم الخدمات، تم تخصيص الجزء الأكبر من ميزانية الدولة لدعم القوات العسكرية وتلبية احتياجاتها.
فقد واجه الشعب أزمات مختلفة خلال حكم أردوغان، والآن، وبسبب الفقر والعوز، بات الشعب يعاني من وضع خطير؛ ولم يعد عمل شخص واحد كافياً لإعالة أسرة وتأمين احتياجاتها، خصوصاً أنّه تم تخفيض سقف رواتب الموظّفين والمتقاعدين، كما تزايدت أعداد النازحين وكذلك العاطلين عن العمل، ويُعرب المجتمع بشكل متزايد عن استيائه من إدارة أردوغان؛ ولكن بسبب القمع والنظام الدكتاتوري لا يستطيع الشعب التمرّد بشكل مباشر؛ وبطبيعة الحال فإنّ هذه الثقافة ضعيفة لدى الشعب التركي أيضاً، ومع ذلك، فإنّ ردود الفعل الشعبية تنعكس في الانتخابات بوضوح؛ فرغم كلّ الهجمات والعراقيل والخداع، تمكّن المجتمع الكردي من انتخاب ممثّليه في البرلمان وكذلك رؤساء بلدياته، كما دعمت المجتمعات الديمقراطية والكماليون واليساريون مرشّحي حزب الشعب الجمهوري، وهنا لم يكن مهمًّا أنّ يفوز حزب الشعب الجمهوري، بل كان هدف المجتمع هو أن يخسر أردوغان في الانتخابات، ولكن أردوغان، ومن خلال سياسته القائمة على الخداع والمراوغة، تمكّن من تأليب قوى المعارضة والأحزاب ضدّ بعضها بعضاً، وقام بتأجيج الصراعات وإثارة الخلافات بينها؛ وبسبب تلك الانقسامات والانشقاقات، لم تتمكّن المعارضة من الفوز في الانتخابات.
ضعف المعارضة وغياب الرؤية لديها:
وهناك ذريعة أساسية لتعامل السياسة والمجتمع التركي مع الكرد، حيث أصبحت العنصرية والعداء تجاه الكرد أمراً طبيعياً؛ فجميع الأحزاب، بما فيها حزب أردوغان، تعمل على تأجيج المشاعر والسياسات العنصرية ضد الكرد؛ ولذلك، لا يمكن لأيّ طرف أن يتّفق أو يتحالف مع الكرد علناً، ومع ذلك؛ بدون الكرد لا يمكن لأيّة قوة أن تتولّى القيادة.
ولكن للأسف؛ فإنّ المعارضة التركية لا تجرؤ على التعامل مع الكرد، ولا تستطيع اتخاذ قرارات جوهرية بشأن القضايا والمشاكل الكبرى التي تواجه تركيا، ولا يخفى على أحد أيضًا أنّ المعارضة تفتقر إلى الحماس والذكاء؛ إنّها ضعيفة ومتعَبة في عملها وحركتها، ونتيجة لذلك؛ هناك غياب واضح لتحرّك جريء وعلنيّ في الميادين.
وترغب هذه القوى في التعامل مع الكرد لتحقيق مصالحها الخاصة والحصول على المزيد من المكاسب فحسب، وعلى هذا الأساس جرت بعض المفاوضات خلف الكواليس وبسرّية تامّة؛ وبطبيعة الحال فإنّ نتائج تلك المفاوضات لم تكن متوافقة مع الرغبات والاحتياجات، ولذلك لا المعارضة حقّقت أهدافها بشكل كامل، ولا المعارضة الكردية والديمقراطية أيضاً حقّقت هدفها.
لدى المعارضة الكردية مشاريع ورؤى أساسية إزاء تركيا، إلّا أنّ هذه المشاريع والمقترحات تواجَه بهجمات من كل الجهات؛
وتهدف الخطة إلى توجيه دفّة السياسة التركية نحو الديمقراطية من خلال التحالفات والتوافقات، وقد تم التأسيس لشراكات ذكية وفي الوقت المناسب أثناء الانتخابات الرئاسية أو البلدية؛ وبطريقة ما، انتصرت الجبهة الكردية؛ إلّا أنّه لا حزب الشعب الجمهوري وتحالف الأحزاب التركية ولا السلطة الحاكمة قدّرت الموقف الكردي.
ورغم كل الثغرات، فإنّ المشروع المُسمّى بـ (التحالف في المدن) الذي تم تنفيذه في إسطنبول ومدن غرب تركيا، قد حقّق نتائج رائعة وناجحة؛ وهذه هي المرة الأولى التي تفاقمت فيها مخاوف أردوغان وازداد قلقه، فهذه هي المرّة الأولى التي يخسر في الانتخابات، وعلى سبيل المثال، ففي مدينة وان ورغم القمع والاستيلاء على المدينة بالقوة أيضًا، فإنّ المقاومة الشعبية هناك قد تمكّنت من هزيمة أردوغان.
محاولة أردوغان الجديدة والانقلاب على المعارضة
وبدلاً من مراجعة نفسه وتصحيح مسار سياساته، أي إيجاد حلول للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للشعب، عمل أردوغان على رفع مستوى كراهيته وحقده، وكثّف من هجماته ضدّ الأحزاب والسياسات المعارضة.
حيث شنّ هجوماً ضدّ الكرد أولاً، وقام بتعيين وكلاء “قيّوم” على العديد من المدن، وفي مواجهة المقاومة وردود الفعل، هاجم الإرادة والتصميم، كما شنّ هجومًا ضد مشروع “التحالف ضد المدن”. في البداية، تم استهداف بلدية إسنلر في قضاء اسطنبول واستولى عليها؛ ولم تُبدِ المعارضة السياسية وحزب الشعب الجمهوري أي ردود فعل تُذكَر إزاء هذا الهجوم، وبحسب قولهم، فإنّ المستهدَفون هم الكُرد، ولذلك لن نُبدي أيّة ردود فعل إزاء ذلك، لكن تدريجياً تم تضييق الخناق عليهم وتم اعتقال رئيس بلدية اسطنبول والعديد من رؤساء البلديات في المناطق مع موظفيهم.
إفراغ الانتفاضة الشعبية من مضمونها:
وكانت ردود الفعل الشعبية إزاء ممارسات أردوغان كبيرة، ولم يكن السبب الوحيد لردود الفعل تلك هو الانقلاب ضد رئيس بلدية إسطنبول؛ بل سنحت الفرصة لإظهار المعارضة ضدّ أردوغان، فالأطفال والآباء، أي كل أفراد العائلة، من الشباب وكبار السنّ، الجميع قد خرجوا إلى الساحات، واحتجّوا ضدّ إدارة أردوغان، ولو كان الطريق مفتوحاً أمامهم لكانت هناك فرصة لاندلاع انتفاضات جماهيرية عارمة مثل الربيع العربي.
وبذلك انكشفت الخفايا التاريخية والعرقية لحزب الشعب الجمهوري؛ فحزب الشعب الجمهوري الذي يرى في نفسه مالكًا للدولة، لا يسمح بحدوث تغيير فيها، كما يدافع الحزب عن سياسة أردوغان في الحرب بحجّة الحفاظ على وحدة البلاد، ولذلك تم تصدير ساسة عنصريين مثل منصور يافاش ومحرم إنجه إلى المشهد لأنّ هؤلاء قد أشادوا بالعنصرية التركية، ونتيجة لذلك؛ لم يرغب المجتمع الكردي بالمشاركة معهم، وأدّى ذلك إلى انقسام في صفوف المعارضة الاجتماعية، ومرة أخرى، فإنّ زعيم حزب الشعب الجمهوري وحلفاءه بدلاً من أن ينتقدوا نظام أردوغان من الأساس؛ ويدعوا إلى إيجاد حلول للمشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية الأساسية، على العكس من ذلك؛ فقد أفرغوا قوة الشعب من مضمونها وشتّتوها من خلال إثارة المشاكل اليومية.
إنّ الشعوب في تركيا تتعرّض للقمع والانتهاكات على يد أردوغان، كما تتعرّض للتهميش ومصادرة الرأي على يد حزب الشعب الجمهوري.
الأضرار الاقتصادية لانقلاب أردوغان
تسبّب اعتقال أكرم إمام أوغلو ورؤساء البلديات بأضرار اقتصادية كبيرة، ويبدو أنّه سيستمرّ في التسبّب بمزيد من الأضرار؛ حيث تتمتّع إسطنبول بأهمية كبيرة كمركز اقتصادي ومالي وتجاري مؤثّر على المستوى المحلّي والدولي.
على سبيل المثال:
* فالليرة التركية تفقد قيمتها وتنخفض تدريجياً مقابل العملات العالمية، وبعد ذلك تدهورت قيمة الليرة التركية بسرعة، وكان الدولار الواحد يساوي أكثر من 40 ألف ليرة تركية، أي أنّه بعد الاعتقال هبطت قيمة الليرة التركية إلى أدنى مستوى تاريخي لها مقابل الدولار واليورو.
*وتفاعلت سوق الأوراق المالية أيضًا في نفس الوقت، وانسحب رجال الأعمال في الخارج على وجه الخصوص من السوق بسرعة؛ والسبب في ذلك هو عدم الثقة بإدارة أردوغان، ولذلك بدأت العديد من المؤسسات المالية العالمية والتجّار ببيع الليرة، كما باعوا أسهمهم في سوق الأسهم، وانخفضت بورصة إسطنبول (BIST 100) بنسبة 15-20 % خلال أيام قليلة؛ ممّا كان بمثابة انتكاسة خطيرة لاقتصاد البلاد.
*تمثّل إسطنبول وحدها 40 % من الناتج المحلّي الإجمالي لتركيا، وقد أدى اعتقال إمام أوغلو إلى تعليق العديد من المستثمرين لأعمالهم، وأصبح المستثمرون الأجانب على وجه الخصوص قلقين وانتابتهم الهواجس، وأمّا أولئك الذين كانوا يخطّطون للاستثمار فقد غيّروا رأيهم وانسحبوا، كما توقّف أصحاب العمل عن العمل بسبب الخوف وعدم الاستقرار الاقتصادي، وبشكل خاص، أولئك الذين يعملون في قطاعات التكنولوجيا والبناء والطاقة حيث قاموا بتعليق مشاريعهم أو تقليصها، وتشير التقارير الاقتصادية إلى أنّ تدفّقات رأس المال الأجنبي قد انخفضت بشكل كبير خلال الأسابيع التي أعقبت الاعتقال؛ ممّا زاد من الضغوط على احتياطيّ النقد الأجنبي لدى البنك المركزي التركي.
* ولم يسلم قطاع السياحة أيضًا من الضرر؛ حيث تُعَدُّ إسطنبول بالفعل واحدة من أهم مراكز السياحة في العالم، فاعتقال رئيس البلدية في المدينة، والاحتجاجات التي أعقبت ذلك، وهجمات الشرطة، وخاصة في مناطق مثل تقسيم وبشيكتاش، التي تُعَدّ بمثابة قِبلة وملجأ للسيّاح، قد أدّت إلى تعريض الأمن للخطر؛ وبالتالي باتت تركيا وإسطنبول الآن بمثابة بؤرة للاضطرابات. ونتيجة لذلك؛ انخفضت حجوزات العديد من الفنادق بنسبة تتراوح بين 30 و40% خلال شهرَي مارس/آذار وأبريل/نيسان؛ وكان لذلك تأثير مباشر على عائدات السياحة، ممّا تسبب بأضرار اقتصادية كبيرة.
*كما هو معلوم؛ فقد أعلن حزب الشعب الجمهوري التركي مقاطعة بعض المصانع المقرّبة من حزب العدالة والتنمية، كما أنّ المحتجّين يقاطعون هذه المصانع ومنتجاتها، بالإضافة إلى ذلك، فقد اضطرب حجم التداولات اليومية ومخطّطات التجّار. إنّ السياسة الغامضة تشكّل خطراً؛ فالتجار وكذلك المعامل الصغيرة، وخاصة في مراكز المدن، قد تضرّرت بشكل كبير بسبب إغلاق المتاجر وانخفاض عدد العملاء والزبائن، وعلاوة على ذلك؛ فإنّ زيادة الإنفاق الأمني واستخدام قوات الشرطة والجيش في قمع الاحتجاجات قد أبقت ميزانية الدولة في حالة حرجة.
*كما هو معلوم، فإنّ الاقتصاد التركي قبل اعتقال إمام أوغلو كان يعاني من أزمة فعلية؛ فمعدل التضخّم بلغ في بداية عام 2025 حوالي 70-80%، كما ارتفع عدد النازحين ونسبة البطالة وحجم الديون الشخصية المرتفعة، وبعد أن وجّهت الإدارة والحكومة اهتمامها إلى أحداث إسطنبول، أهملت عملية البحث عن حلول لهذه المشاكل، كما عملت وزارة الاقتصاد جاهدة على إقامة بعض العلاقات الدولية واقترضت الأموال، وقد انقلب هذا النظام أيضا رأساً على عقب، والآن يجب إعادة تخطيط كلّ شيء، وهو ليس بالأمر السهل.
وبالإضافة إلى أزماتها الاقتصادية والاجتماعية، تعمل تركيا أيضاً على زيادة قواتها العسكرية في كلّ من سوريا والعراق، وتريد بناء بعض القواعد العسكرية الجديدة؛ لقد بات أردوغان مقتنعاً بأنّه لا يمكنه حلّ المشاكل الداخلية من خلال السلام والجهود الاجتماعية والاقتصادية، ولهذا يريد شنّ الحروب في أماكن عديدة، كما يريد كسب المجتمع والحصول على دعمه بحجّة مواجهة رياح الحرب والعنصرية، إنّه يأمل أن يجعل من الحرب الخارجية والاضطرابات الداخلية سببًا وذريعة يعلن من خلالها حالة الطوارئ، وينشر القوات العسكرية والأمنية وشبه العسكرية في المدن، ويعزّز من قمعه للمعارضة ويلغي النظام الانتخابي؛ وإذا ما حقّق أيّة نتائج في هذا المجال فإنّه حينها سيؤسّس لعلاقات استراتيجية وعسكرية واقتصادية مع القوى الدولية بناء على أساس الوضع الجديد؛ إلّا أنّ ذلك ليس بالأمر السهل، والخطط لا تنجح دوماً، وقد فشل القمع في العديد من أنحاء العالم، وانتفاضات الشعوب تبدأ مرّة واحدة، ثمّ تزداد ضراوة شيئاً فشيئاً، فرغم محاولات حزب الشعب الجمهوري وأحزاب المعارضة إيقاف تلك الاحتجاجات، إلّا أنّ الغضب الشعبيّ قد بلغ حدّاً لم يعد بالإمكان إيقافه، وستشقّ طريقها وستستمر في إظهار ردود فعلها واحتجاجاتها.