ترامب وملف شمال وشرق سوريا

انقسمت دول الشرق الأوسط ما بين مؤيّدة لدونالد ترامب وأخرى مؤيّدة لكاميلا هاريس؛ وذلك بناءً على سياسة ترامب خلال فترة ولايته الأولى، وسياسة كاميلا هاريس عندما كانت نائبة للرئيس الأمريكي جو بايدن. كانت دولة الاحتلال التركي من تلك الدول التي تؤيّد فوز ترامب؛ حيث كانت تعوّل عليه لتنفيذ مخطّطاتها في سوريا إلى جانب العلاقة الشخصية التي تربط ترامب بأردوغان.

بعد فوز ترامب بولاية ثانية في الانتخابات الأمريكية الأخيرة أمام منافسته كاميلا هاريس، وتحديده المبدئي لفريقه في الإدارة الأمريكية الجديدة، هل سيتّبع ترامب نفس السياسة الخارجية التي اتّبعها أثناء ولايته الأولى؟ وكيف سيتعامل مع تركيا بخصوص ملف شمال وشرق سوريا “مناطق الإدارة الذاتية في إقليم شمال وشرق سوريا”؟ وهل سيكون الانسحاب الأمريكي من المنطقة على سُلّم أولوياته؟

سياسة ترامب خلال ولايته الأولى، والتي كانت ملفات الشرق الأوسط من أولوياته “إيران، إسرائيل، دول الخليج العربي، التطبيع، محاولة إنشاء تحالف عسكري في المنطقة، الانسحاب الجزئي من شمال وشرق سوريا”، كانت ذات تأثير كبير على المنطقة؛ وعلى ما ترتّب عليها من إيجابيات وسلبيات على المنطقة وعلى مكانة الولايات المتحدة وصراعها غير المباشر مع الصين وروسيا حول شكل النظام العالمي. لم تكن سياسة ترامب الخارجية، خاصة تجاه حلفاء الولايات المتحدة (دول الخليج العربي)، متّزنة؛ بل حدث نوع من التنافر بين الطرفَين وتوجّهت الأخيرة نحو الصين وروسيا وعقدت اتفاقيات من شأنها التأثير على الولايات المتحدة، كما أنّ الانسحاب الأمريكي من شمال وشرق سوريا والسماح لدولة الاحتلال التركي باحتلال منطقتَي كري سبي وسري كانيه قد أدّى لدخول القوات الروسية والنظام، لأول مرة منذ بدء الأزمة السورية، إلى شرقي الفرات، إلّا أنّه قد نجح في تطبيع بعض الدول العربية “الإمارات العربية المتحدة والبحرين” علاقاتها مع إسرائيل، وكذلك في الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي مع إيران.

بعد خسارة ترامب أمام جو بايدن لم يكن الأخير مهتمّاً كثيراً بمنطقة الشرق الأوسط، باستثناء دعمه الكبير لإسرائيل، خاصة بعد السابع من أكتوبر، إلّا أنّ تركيزه كان على الملف الأوكراني بشكل كبير. بعد فوز دونالد ترامب بولايته الثانية من المرجّح عودة ملف الشرق الأوسط إلى الواجهة؛ فالرئيس الأمريكي لديه مشاريع في المنطقة لم تنتهِ بعد، ومنها التطبيع العربي – الإسرائيلي، وإنشاء تحالف عسكري عربي – إسرائيلي – أمريكي، وكذلك الصراع مع الصين وروسيا حول شكل النظام العالمي ومكانة الولاية المتحدة.

أولاً: سياسة ترامب في المنطقة:

يمكن الجزم بأنّ ملفات الشرق الأوسط ستكون على سُلّم أولويات السياسة الخارجية لترامب، ولكن لا يمكن الجزم بأنّ سياسته الجديدة ستكون مشابها لسياسته خلال ولايته الأولى؛ فالظروف الدولية لم تعد مشابهة لما كانت عليه سابقاً، بل زادت الملفات الملقاة على كاهل الولايات المتحدة، وخاصة الحرب الروسية على أوكرانيا والدعم العسكري الأمريكي لأوكرانيا، والحرب الإسرائيلية على حماس وحزب الله في لبنان والردّ الإيراني على إسرائيل، ومحاولات أردوغان التطبيع مع النظام السوري.

وبالنظر لإدارة ترامب التي ينوي تشكيلها والتصريحات القديمة والجديدة لتلك الشخصيات؛ فإنّه من المتوقّع أن تكون سياسته مغايرة لسياسته القديمة في بعض الملفات، خاصة تلك المتعلّقة بإيران وردّها على إسرائيل، والميليشيات الإيرانية في سوريا وقصفها للقواعد الأمريكية في شرقي الفرات، وستكون سياسته مغايرة كذلك تجاه أردوغان وعلاقاته المتنامية مع روسيا ومحاولاته التطبيع مع الأسد، خاصة مع قيام إسرائيل بشنّ حرب ضدّ حماس وحزب الله والتي ما تزال مستمرّة، إلى جانب المشاريع الاقتصادية التي تُرتَسم في المنطقة، والتي تحاول كلّ دولة أن يكون مشروعها هو الأعلى قيمة من بين المشاريع الأخرى: (المشروع الأمريكي في ربط الهند بأوروبا عبر المنطقة العربية وإسرائيل، والمشروع الصيني “طريق واحد حزام واحد”، والمشروع التركي “طريق التنمية” الذي يربط العراق بتركيا، والمشروع الإيراني الذي يربط طهران بالبحر المتوسط عبر بغداد ودمشق وبيروت). لذا؛ فإنّ هذه الملفات تشكّل أهمية كبيرة لدى الولايات المتحدة، وبالتالي ستكون منطقة الشرق الأوسط من أولويات سياسة ترامب الجديدة؛ والتي قد تقوم على أساس الحفاظ على الوجود الأمريكي في المنطقة وربط المنطقة بالسياسة الأمريكية.

ثانياً: كيف سيتعامل ترامب مع تركيا بخصوص ملف شمال وشرق سوريا “مناطق الإدارة الذاتية في إقليم شمال وشرق سوريا”؟

سوريا، وبالأخص الوجود الأمريكي في شرقي الفرات، جزء من الوجود الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط ومحور هام؛ حيث الوجود العسكري الروسي القريب من القواعد الأمريكية، وكذلك هناك الأطماع التركية التي تقوم على إعادة أمجاد السلطنة العثمانية من خلال “الميثاق الملّي” وتطمح تركيا لأن تكون هي الدولة المركزية في منطقة الشرق الأوسط، وهي بذلك تنافس كلّاً من إسرائيل وإيران ومصر على هذا الموقع، بالإضافة إلى أنّها راعية للإرهاب؛ وهذا ما قد يخلق مشكلات للولايات المتحدة واستراتيجيتها في المنطقة.

لا يمكن القول إنّ الوجود الأمريكي ينحصر في حماية آبار النفط وحقول الغاز أو نهب تلك الثروات؛ فهي ليست بحاجة إلى تلك الثروات، وهناك دول غنية تمدّ الولايات المتحدة بالطاقة، أو القول إنّ الوجود الأمريكي إنّما هو لمحاربة داعش؛ فقوات سوريا الديمقراطية تقوم بهذه المهمة وتقديم الدعم الخارجي لها كافٍ للاستمرار في منع عودة داعش والتنظيمات الإرهابية، بل إنّ الوجود الأمريكي في شرقي الفرات مرتبط بملفات أكثر أهمية من ذلك؛ فهو مرتبط بالنظام السوري ومنعه من العودة إلى المنطقة ومن ثم السيطرة على تلك الثروات التي ستمنحه القوة الكبيرة للعودة إلى ما كان قبل 2011م؛ وهو ما سيخدم روسيا ويمنحها أريحية كبيرة في الملف السوري اقتصادياً وعسكرياً، وبالتالي يجعلها تتفرّغ بشكل كامل للملف الأوكراني، ويسمح  للنظام بإمداد الجيش الروسي بالمقاتلين، وهو ما قد ينعكس على سير الحرب في أوكرانيا، وبالتالي سيشكّل ضغط كبيراً على أوكرانيا والدول الأوروبية.  كما أنّ الولايات المتحدة، كما هو واضح في استراتيجيتها في المنطقة وتعاملها مع الملف السوري، لا ترغب بشكل النظام المركزي في سوريا، بل ترغب بإنشاء نظام لا مركزي، وهو الأمر الذي تخشاه دولة الاحتلال التركي، لذا؛ نجد أردوغان يستميت من أجل التطبيع مع الأسد ومحاربة الإدارة الذاتية ومشروعها الديمقراطي، لكن دون أن يتنازل عن مكتسباته في الشمال السوري المُحتَل، وما التصريحات التركية الحالية وتهديدات أردوغان إلّا خطوات استباقية للإشارة إلى أنّها غير راضية عن السياسة الأمريكية تجاه الملف السوري واستمرار دعمها لقوات سوريا الديمقراطية، وتأمل من الإدارة الجديدة أن تسلك مسارًا يتوافق مع أطماعها في سوريا وأن توقف دعمها لقسد.

إذاً؛ هناك صراع بين القوى العظمى (الولايات المتحدة وروسيا والصين) حول شكل النظام العالمي، وصراع بين القوى الإقليمية (إيران وتركيا ومصر وإسرائيل) على أن تكون دولة مركزية في منطقة الشرق الأوسط، وسوريا – بحكم موقعها الجيوسياسي في منطقة الشرق الأوسط – طرف رئيسيّ في هذا الصراع، وهناك دعم أمريكي وخاصة من قبل ترامب لإسرائيل، لذا؛ فإنّ الولايات المتحدة قد لا تقبل بمطالب دولة الاحتلال التركي، حتى وإن كانت حليفتها، لأنّ الاستراتيجية التركية في المنطقة تتضارب مع استراتيجيتها ومع استراتيجية إسرائيل، ومن أجل الحفاظ على جميع الحلفاء والشركاء، ومنع تفاقم الوضع في المنطقة الذي يدخل في خدمة روسيا والصين، فقد يعمل ترامب على فتح باب الحوار بين تركيا والإدارة الذاتية، وبين تركيا وحزب العمال الكردستاني في الداخل التركي تمهيداً لعملية سلام شاملة. أمّا في حال رفض تركيا أو فشل عملية السلام فإنّ تركيا ستتعرّض لضغوط داخلية “أمنية – حالة غليان في الشارع الكردي في تركيا؛ نتيجة السياسة التي ينتهجها النظام التركي القوموي تجاه رؤساء البلديات الكرد- إلى جانب الضغوط الاقتصادية التي تشهدها تركيا في الآونة الأخيرة” وأخرى خارجية “استعدادات قوات النظام وروسيا للبدء بعملية تحرير الشمال السوري من الاحتلال التركي ومرتزقتها، والتي تنتظر الضوء الأخضر من أطراف خارجية للبدء بعملية التحرير، كما أنّ تلك السياسة التي تنتهجها دولة الاحتلال التركي ستجرّ المنطقة نحو حروب كبيرة تكون الأنظمة المركزية هي الخاسر الأكبر فيها، لذا؛ قد يتحتّم على النظام التركي الرضوخ للسياسة الأمريكية واستراتيجيتها في المنطقة، سواء شاءت ذلك أم أبَت، وإلّا فستجرّ تركيا نحو الهاوية.

ثالثاً: هل سيكون الانسحاب الأمريكي من المنطقة من أولوياته؟

بالنظر إلى الصراع الأمريكي – الروسي، والحرب الروسية – الأوكرانية، ومحاولات أردوغان التطبيع مع الأسد لإنهاء الإدارة الذاتية؛ فإنّ الانسحاب الأمريكي لن يكون بهذه السهولة، فالانسحاب الأمريكي من شرقي الفرات “مناطق الإدارة الذاتية” لن يخدم الولايات المتحدة بأي شكل من الأشكال، حتى وإن وضعت الإدارة الأمريكية الحالية مدّة زمنية للانسحاب؛ فالانسحاب في هذا الوقت سيخدم روسيا والنظام بالدرجة الأولى، والانسحاب الأمريكي يعني خروج الملف السوري من يد الولايات المتحدة وحصره بيد تركيا وروسيا، ويعني أيضًا عودة النظام وروسيا إلى المنطقة وسيطرتهما على منابع النفط والغاز، وهو ما سيمنح القوة لكلّ من روسيا والنظام، وبالتالي؛ رفع عبء ثقيل عن كاهل روسيا اقتصادياً وعسكرياً في دعمها للنظام، وتتفرّغ بشكل أكبر للملف الأوكراني، حتى أنّ النظام سيقف إلى جانب روسيا اقتصادياً وعسكرياً “دعمها بالمقاتلين” في حربها ضدّ أوكرانيا، كما أنّ الانسحاب سيطلق يد تركيا في مناطق الإدارة الذاتية؛ وهو ما يعني خسارة الولايات المتحدة لحلفائها في المنطقة. إذاً؛ الانسحاب الأمريكي لن يحدث بمجرّد هاتف من أردوغان على غرار 2019 أو بإعادة الجنود الأمريكيين إلى وطنهم، بل سيحدث بعد الوصول إلى اتفاق بين الولايات المتحدة وروسيا لإنهاء الأزمة السورية بشكل كامل، وهو أمر قد يبدو صعباً في المرحلة الحالية ومرتبط بالحرب الروسية الأوكرانية.

يمكن القول إنّ الانتخابات الأمريكية بين الديمقراطيين والجمهوريين قائمة على تبادل الملفات في المنطقة والعالم، بمعنى؛ تهدئة ملفاتٍ على حساب ملفات أخرى، وبالتالي؛ فإنّ خسارة ترامب أمام بايدن لم تكن إلّا لتهدئة الشرق الأوسط نتيجة السياسة التي انتهجها ترامب أثناء ولايته الأولى التي أدّت لحدوث شرخ في العلاقات بين الولايات المتحدة وحلفائها في الشرق الأوسط، وعودة ترامب تعني عودة ملف الشرق الأوسط، ومنها الملف السوري، إلى الواجهة من جديد. لذا؛ قد يعمل ترامب على تجاوز الأخطاء التي ارتكبها في الماضي ويعمل على تعزيز العلاقة مع حلفائه وإعادة الثقة بالولايات المتحدة كقوة حليفة يمكن الاعتماد عليها خلال الأزمات، وبالتالي؛ النجاح في إنشاء تحالف عسكري عربي – إسرائيلي – أمريكي في المنطقة. لذا؛ قد نشاهد تغيّراً كبيراً وحتى مفاجئاً في سياسة ترامب الجديدة مع كثير من الدول الإقليمية، وقد تكون تلك السياسة أكثر حزماً – عكس سياسته أثناء ولايته الأولى – فيما يتعلّق بالملف السوري ووجود القوات الأمريكية في شرقي الفرات ودعم قوات سوريا الديمقراطية، ولربّما تتوجّه الولايات المتحدة نحو الاعتراف بالإدارة الذاتية.

زر الذهاب إلى الأعلى