ماذا نستنتج من نتائج الانتخابات التركية؟

مما لا شك فيه ان الكثير من المراقبين والمحللين والمهتمين بالشأن التركي والانتخابات المؤخرة التي جرت في الرابع عشر من شهر ايار الجاري، قد صدموا بالنتائج، واحدثت الكثير من اللغط والجدل في الاوساط المتابعة، من اعلاميين ومراكز دراسات ومراكز استطلاع الرأي، كردياً كان حزب اليسار الاخضر والذي يعتبر بديلاً أو رديفاً لحزب الشعوب الديمقراطي يهدف ويتأمل بالحصول على 100 مقعد حسب تصريحات قادة الحزب ضمن الحملات الانتخابية، وكانوا معتمدين ومستندين بذلك على نتائج الانتخابات الماضية التي حصلوا فيها على 82 مقعداً، لكن ورغم تصدر الحزب للقوائم في المدن ذات الاغلبية الكردية الا انه لم يتحصل سوى على 61 مقعداً برلمانياً فقط، بالتأكيد ان هذه النتائج ربما لا تعكس عين الحقيقة بالمطلق، وهناك الكثير من الظروف والعوامل التي تؤثر في هكذا نتائج، وبكل تأكيد هناك عوامل داخلية وخارجية منها موضوعية ومنها ذاتية ذات تأثير مباشر على نفسية الناخب أو المتلقي للخطاب الانتخابي، مما لا شك فيه ايضاً ان لكل حزب أو تكتل أو جماعة خط عريض وواضح وذات توجه رسمي حقيقي، والكتلة الانتخابية تكون مرتبطة بهذا التوجه ارتباطاً وثيقاً وملتزم بشكل طبيعي بهذا التوجه أو الخطاب، والذي قد يكون على شكل خطاب ديني كما يتبناه حزب العدالة والتنمية، أو على شكل خطاب قومي متشدد كما يتبناه حزب الحركة القومية، أو خطاب قومي نوعاً ما منفتح أو اقل تشدداً كما حزب الشعب المعارض أو خطاب اجتماعي سياسي ثقافي كما يتبناه حزب الشعوب الديمقراطي، والذي يحتوي بداخله مجموعة افكار دينية وقومية وثقافية وسياسية مع خلق حالة توازن بينها، وذلك بعدم تعدي احداها على الاخرى مع حفظ واحترام متبادل فيما بينها. نستخلص من النتائج الاخيرة انه هناك عدة عوامل ساهمت في تقليص عدد مقاعد الحزب داخل قبة البرلمان منها:

  • ان اولويات الناخب قد تختلف من شخص إلى اخر بغض النظر عن الكتلة الثابتة الملتزمة مع هذا الحزب أو ذاك، فمثلاً المتزمت دينياً أو ايديولوجياً لا يمكن استمالته بسهولة، اما النخبة أو الفئة المتذبذبة فتكون الهدف الرئيسي لكل جهة أو تيار، وهذه الفئة هي التي تتحكم احياناً في النتائج النهائية.
  • الخطاب الانتخابي بشكل عام لم يكن بالمستوى المطلوب، فلم يقدم رؤية واضحة للناخب بشكل عام والكردي بشكل خاص وخاصةً الفئة المتدينة وذات الخلفية العشائرية والطبقية.
  • التركيز على الاستهداف الشخصي للجهة المقابلة، دون التركيز على القضايا التي تهم المتابع أو الناخب بشكل مباشر.
  • التحالف مع بعض الاحزاب والشخصيات الغير مقبولة من انصار الحزب المتذبذبين، وخاصة اولئك الذين كانوا يتبنون قضايا المثليين والمثلية الجنسية وهذا الخطاب كان له دور سلبي بامتياز، خاصةً وان المجتمع المستهدف ينظر إلى هذا الموضوع على انه بعيد عن القيم المجتمعية والدينية والثقافية التي تربوا فيها.
  • عدم مشاركة الحزب بمرشح مستقل لمنصب رئاسة الجمهورية كان له دور سلبي ايضاً، اولاً لعدم رضى الناخب عن البديل وهو كمال كليجدار أوغلو لأنه لا يوجد اي حل استراتيجي بيده مستقبلاً، وثانياً اضعف من شخصية الحزب ومعرفة نسبته ووزنه في الجولة القادمة، كما حصل مع المرشح الثالث سنان أوغان.
  • ضغط الحكومة والعسكر اللا متناهي على الحزب واعضائه وعدم تركهم للعمل بأريحية مناسبة في الحملات الانتخابية، وحالات العنف والتوتر التي تشهدها خاصةً المناطق الكردية، والصاق تهمة الارهاب أو التعامل مع الارهاب بأعضاء الحزب دائماً، ادى إلى نوع من النفور من قبل الناخب العادي للحزب واعضائه ومرشحيه.
  • خلق احزاب وقوى كردية بديلة مرتبطة ومدعومة مباشرةً من القوى المتنفذة، تلك القوى التي ما برحت تعزف على الوتر الديني ودغدغة مشاعره بشكل اساسي في مجتمع يرتكز بالأساس على هكذا خطاب.
  • عدم وجود اهتمام دولي بخطاب الحزب السياسي، وتقاعس قيادات الحزب الجديدة عن التواصل مع الدول الاوربية والغربية وطرح مشروعهم ومتابعته ضمن حلقات دبلوماسية للتعريف بقضيتهم العادلة.
  • التأثيرات الاقليمية والدولية الحاصلة على الساحة والخارطة السياسية وموضوع الجار السوري واللاجئين والحرب الروسية الاوكرانية ووباء كورونا والعلاقات مع العالم العربي وإلى ما هنالك من عوامل كانت ربما سلبية على الحزب.

 بالإضافة إلى كل ما سبق فانه لا يمكن ان نجزم بنزاهة الانتخابات المطلقة، واكبر دليل على ذلك دخول الحزب الحاكم للانتخابات بأريحية ولو شكلية أو ظاهرية، خاصةً وان معظم استطلاعات الرأي التي قامت بها جهات مستقلة كانت تشير إلى تقدم المعارضة بفارق كبير ومريح نوعاً ما، وهذه الحالة تخلق نوعاً من الشك في تدخل اطراف مستفيدة وصاحبة خبرة تقنية في النتائج وبشكل محترف، كما اننا نستنتج بان الرئيس التركي فاز بكاريزميته الخاصة نوعاً ما، وذلك بدليل انه ورغم ان داود أوغلو رئيس وزرائه السابق وعلي بابا جان الوزير السابق في احدى حكوماته ايضاً انشقا من الحزب وقام كل منهم بتشكيل حزب جديد وانضمامهم إلى الطرف المقابل أي المعارضة، لم يستطيعوا خلق كتلة او وزن انتخابي مطلوب. وربما لو ان العدالة والتنمية دخل الى الانتخابات بشخص غير أردوغان لما حصل على هكذا نتيجة في احسن الاحوال.

سنان أوغان المرشح الثالث والذي يعتبر بحسب نتائج الجولة الاولى، بيضة القبان للجولة الثانية الحاسمة والتي ستجري مع نهاية الشهر الجاري يعتبر الاكثر تطرفاً بالنسبة للكرد والقضية الكردية، خاصةً وانه لا يوفر مناسبة لإظهار ذلك جهاراً نهاراً فقد كان من اول شروطه على مرشح المعارضة فك ارتباطه عن حزب الشعوب الديمقراطي وحلفائه. ومع ذلك فقد اعلن مؤخراً عن دعمه لأردوغان المشروط بوضع خطة زمنية لترحيل اللاجئين السوريين، ولكن هنا يطرح سؤال ذاته لو ان المرشح الرابع محرم انجه لم ينسحب في اللحظات الاخيرة، هل كان سنان أوغان ليحصل على ما حصل عليه من نسبة عالية ومغايرة لاستطلاعات الرأي؟ وهل كامل النسبة ستدعم طرف على حساب طرف اخر ام انه سيكون هناك مقاطعة بعدم التصويت كرد على عدم الرضا عن المرشحين اصلاً. خاصةً وانه تبين للعلن ان الكتلة المنتخبة له اساساً غير متوافقة ضمنياً وذلك بدليل انشقاق الاصوات فيما بينهم قبل الجولة الثانية في دعم كل طرف لمرشح على حساب الاخر.

في كل الاحوال يتبين من هذه الانتخابات ان ما بعدها لن يكون كما قبلها وان نتائج هذا التصويت ربما يعكس رغبة نصف الشعب التركي في التوسع فعلاً في دول الجوار ويؤكد على ان الشعب فعلاً لديه رغبة حقيقية في تطبيق الميثاق الملي وارجاع امجاد الجيش الانكشاري ودور السلطان والخلافة العثمانية، كل هذه النتائج توضح ان المجتمع التركي أو غالبيته أو نصفه على اقل تقدير، ما زال يعيش على اطلال الماضي وان شخصية كما أردوغان اذ هو يدغدغ تلك المشاعر وتلك الرغبة وربما ان الشعب يرى فيه الفاتح الجديد. ومع كل ذلك فانه ما زال المجتمع التركي امامه فرصة اخرى، مع جولة الاعادة في نهاية الشهر الجاري كما هو مقرر وكما يتابع المهتم والمختص لهذا الشأن فان حظوظ المرشحين تكاد تكون متقاربة جداً، وعليه فان المطلوب من المعارضة ان تكون اكثر تماسكاً وتكون على قلب رجل واحد وتقنع الناخب المتذبذب اصلاً بمدى اهمية صوته في تغيير عقدين من الجمود الفكري والاقتصادي والتشنج الخارجي مع الدول الاقليمية والدولية من قبل الدكتاتورية المتمثلة في راس الهرم للعدالة والتنمية.

زر الذهاب إلى الأعلى