الأمة الديمقراطية والإدارة الذاتية هما الحل الأمثل للصراعات العرقية والإثنية في الشرق الأوسط

إلهامي المليجي

 

إن التعايش بين الشعوب ضرورة حياتية، لحماية مستقبل البشرية من أخطار دعوات الكراهية، والعنف، والإقصاء، على أسس دينية، أو مذهبية، أو عرقية.

هذا يستوجب استنهاض قدرات المجتمعات الإنسانية، وتوحيد جهودها، لتعزيز فكرة التعايش كقيمة إنسانية جامعة، تكفل حماية التنوع، وتعزز الحوار والتعاون. ويتطلب هذا العمل غرس قيمة التعايش في مناهج التعليم، ووسائل الإعلام، وداخل الأسرة، وأماكن العبادة.

إن منطقة الشرق الأوسط تتميز بتنوع اثني، وعرقي، وديني، ومذهبي، بحكم عوامل عديدة، بعضها تاريخي، وبعضها جغرافي، وكانت ممرا، وأحيانا مستقرا، للكثير من شعوب الجنوب والشمال،  فضلا عن كونها منطقة غنية، بالثروات الطبيعية، والمائية، والتربة الصالحة للزراعة، وكانت تشهد تعايشا بين كل المكونات من اثنية وعرقية ودينية، إلى أن جاءت  القوى الاستعمارية الطامعة في ثروات المنطقة، وانتهجت سياسة فرق تسد، ولعبت على وتر الخلافات، وعمقت من التباينات الثقافية بين مكونات المنطقة.

سايكس بيكو والظلم التاريخي للكرد

لقد أقدم النظام العالمي والرأسمالي، (وقد تشكل مع الحرب العالمية الأولى 1914-1918م)، على تقسيم منطقة الشرق الأوسط، من خلال ما سمي باتفاقية سايكس- بيكو- سازانوف، أي المعاهدة السرية التي عقدت في 1916 بين فرنسا والمملكة المتحدة، بمصادقة من الإمبراطورية الروسية وإيطاليا، لتقسيم منطقة الهلال الخصيب، وأوجدت حدوداً مصطنعة في الشرق الأوسط، دون أي اعتبار للخصائص الإثنية أو الطائفية، مما ولد صراعات ونزاعات، ولايزال إرث الاتفاقية يلقي بظلاله على النزاعات الحالية في المنطقة.

إن الكرد هم أكثر القوميات التي تعرضت لظلم تاريخي، جراء تلك الاتفاقية التي أدت إلى توزيعهم على أربع دول هي: تركيا والعراق وسوريا وإيران، وعمدت الأنظمة في تلك الدول على طمس الموروث الثقافي الكردي،  والعمل على تذويب المكون الكردي، ضمن نسيج تلك الدول، في تجاهل فاضح لخصوصية الشعب الكردي، والذي يمتلك موروثا ثقافيا متميزا داخل شعوب المنطقة، وعندما جابه الشعب الكردي تلك المحاولات تعرض لاضطهاد،  وظلم رهيب من الأنظمة المتتابعة لتلك الدول.

الحركات القومية العربية من النضال إلى التسلط والمركزية

هذا التقسيم المتعسف للمنطقة،  والذي تزامن مع تشكل حركات قومية عربية مناهضة للاستعمار العثماني، وصلت بعض تلك التيارات والأحزاب القومية العربية، وقد رفعت شعارات ثورية، إلى حكم بعض الأقاليم في المنطقة، ومع وصولها إلى سدة الحكم، بدأت مرحلة جديدة بفرض أفكارها وأنماطها،  ما أدى إلى ارتكاب جرائم عرقية، في تجاهل لحق التنوع الاثني والديني والمذهبي، الذي يمثل أحد أهم التكوينات المجتمعية عبر العصور، وتشهد بذلك الحضارات القديمة، ولقد أدت سياسات تلك الأنظمة المفتقرة للخبرة والوعي إلى تحويل المنطقة إلى بؤرة للفوضى والحروب، مازالت آثارها حاضرة حتى اليوم .

التنوع الثقافي مصدر قوة وغنى

لقد لجأت تلك الأنظمة إلى انتهاج المركزية،  وفرض اللغة الواحدة، واحتكار وسائل القوة، متجاهلة التعدد والتنوع الذي يميز ثقافة المنطقة، والذي يمثل عامل قوة وغنى، وكذلك حرمت المجتمع من حقه في حماية ذاته، ما أدى إلى نشوب صراع بين الحكومة المركزية والأطراف جراء محاولات الحكومات المركزية، لإخضاع الأطراف، وما تمثل من تنوع ديني وعرقي ولغوي.

عوضا عن العمل على استيعاب الأطراف والآخر المختلف عرقيا ودينيا،  وفقا للقيم الديمقراطية، لترسيخ مفاهيم الانتماء الطوعي للبلاد، ما يمكن من توظيف كل الطاقات لتنمية وتطوير البلاد.

بالرغم من بعض الإشكاليات التي كانت تأتي من السلطات الحاكمة، ظلت شعوب المنطقة عبر آلاف السنين تعيش في وئام وتتشارك في الحياة اليومية، والجغرافيا والتاريخ، وهذا التنوع يمثل مصدر غنى ثقافي، وكذلك يضفي مزيدا من القوة لشعوب المنطقة، وإضعاف أي من مكونات المنطقة، يسهم في إضعاف شعوب المنطقة ككل، وهذا ما تؤكده الوقائع التاريخية.

الإدارة الذاتية تجربة تطبيقية للأمة الديمقراطية

جاءت منظومة الإدارة الذاتية الديمقراطية لشمال وشرق سوريا وقوات سوريا الديمقراطية، والتي انطلقت من خلال مشروع الأمة الديمقراطية الذي طرحه المفكر عبد الله أوجلان، لتمثل، وبحق، نموذجا تطبيقيا لفعالية وصحة ونتائج المشروع الوطني الديمقراطي في سوريا، فقد استطاعت وبإمكانيات متواضعة، ورغم الظروف الصعبة والقاسية والحصار وتواطؤ النظام التركي، أن تقضي على أكثر التنظيمات الإرهابية التي كانت تمثل خطرا على شعوب ودول المنطقة والعالم، وبذلك حررت ملايين العرب والكرد وباقي المكونات من براثن إرهاب داعش، وأسست لسياق ونواة ديمقراطية في  المنطقة، مكرسة لحياة مستقرة ديمقراطية ومؤسسات اقتصادية، وتعليمية، وصحية، وأمنية، وثقافية، ونسائية، وحل القضايا العالقة وغيرها، متجاوزة زمنها ومحيطها ، ومنتهجة للديمقراطية المجتمعية، وحرية المرأة، والتآخي بين الشعوب، والدفاع والأمن الذاتي، والاقتصاد الذاتي المجتمعي.

من خلال تجربة الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا،  يمكننا أن نقول إن المجتمعات والشعوب في الشرق الأوسط ، يمكنهم العمل والكفاح والتأسيس لبناء حياة ديمقراطية وحرة، يتحقق فيها الاستقرار والأمن والسلام، عبر السياق الديمقراطي المجتمعي، معتمدة على القوى الذاتية، لمجتمعات وشعوب المنطقة، ومنفتحة على أي تواصل وعلاقات وتوافقات وتفاهمات سيادية وندية، تضمن وتحفظ للمجتمعات والشعوب حريتها وكرامتها، وإدارتها الذاتية تخدم المصالح الحقيقية للمجتمعات والشعوب.

يمكن القول، ومن خلال إطلاعنا عن قرب على تجربة الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، إنها تمثل، وبحق، الحل النهائي والأمثل لجميع القوميات، من كردية وآشورية وعربية، وكذلك تؤسس لبناء تكامل إقليمي وكونفدرالية مشرقية، يعيش في ظل فضاء مجتمعي قائم على قبول الآخر، ومؤمن بالديمقراطية، والعيش المشترك.

 

الحوار العربي الكردي ضرورة حياتية

 

إن خروج منطقتنا من الأزمات التي تعانيها يتأتى من خلال السعي لتحقيق التحول الديمقراطي،  وبناء الديمقراطية كنظام للحياة، والإدارة، وإحداث تغيرات جوهرية وبنيوية في المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأمني والثقافي، لتمهيد الأرضية وبناء ذهنية ديمقراطية تشاركية، تقبل وتصون وتحافظ على التنوع والتعدد الموجود في المنطقة، وتحترم إرادة كل المجتمعات والشعوب والتكوينات المجتمعية، في أن تحمي وتدير مناطقها وثرواتها، بمشاركة وريادة المرأة الحرة، والشباب الواعي والمنظم، في إطار تكاملي، ووحدة ديمقراطية لشعوب المنطقة، كالكونفدرالية الديمقراطية لاتحاد الشعوب والأمم الديمقراطية في الشرق الأوسط، أو أية صيغ تشاركية وتوافقية بين شعوب المنطقة، مع ضرورة بدء حوار عربي كردي معمق، وعلى أسس واضحة لمعالجة كل الأزمات في المنطقة، وبناء التكامل الإقليمي ووقف كل أشكال الحروب والصراعات.

الإدارة الذاتية وحل الأزمة السورية

لقد كان لتأسيس الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا الأثر الواضح في الحفاظ على الأمن والاستقرار في مناطق شمال وشرق سوريا، على أسس من التعايش المشترك وقبول الآخر، ولفتت تلك التجربة المميزة أنظار العالم، ما دفع العديد من الدول للاعتراف بها كممثل حقيقي عن مناطق شمال وشرق سوريا، وقد أسهم هذا الأمر بتحقيق قفزة نوعية في اتجاه حلحلة الأزمة السورية بعدما تعقدت حبالها بفعل تدخلات إقليمية ودولية.

إن تجربة الإدارة الذاتية سلكت دروب الوصول إلى نموذج توافقي لمستقبل الشعوب السورية، ومآلاته، خاصة بعد أن شكل تأسيس الإدارات الذاتية والمدنية الديمقراطية أملاً في الوصول إلى النور في النفق المظلم الذي تشكل بعد سنوات من الأزمة السورية،  حتى أصبحت تلك الإدارات  النواة لإعلان تأسيس الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، ما يستوجب على المجتمع الدولي الاعتراف بالإدارة الذاتية كنموذج للحل الأمثل للأزمة السورية، وخاصة بعدما أثبتت الإدارة الذاتية جدارتها خلال تجربتها التي امتدت لسنوات، استطاعت خلالها تحرير المناطق من الجماعات الإرهابية، وتحقيق الكثير من الإنجازات والأعمال الخدمية، وكذلك بذلت جهودا ملموسة في إعادة إعمار المناطق التي تعرضت للتدمير من قبل التنظيمات الإرهابية، فضلا عن الدور الريادي والفعال للمرأة في مناطق الإدارة الذاتية،  بعدما تم تغييبها بفعل عوامل اجتماعية وسياسية.

 

إنَّ التجربة التي تعيشها مناطق شمال وشرق سوريا، في ظل الإدارة الذاتية، وطبقا لسكان تلك المناطق، تمثل التجربة الأفضل، والأكثر مثالية في تاريخ سورية، فقد استطاعت شعوب المنطقة، ومن خلال تجربة الادارة الذاتية، حماية وإدارة نفسها، ما يتطلب من المجتمع الدولي أن يسعى لتحقيق اعتراف دولي بالإدارة الذاتية، لدعمها في مواجهة المخططات التي تنوي النيل من كيانها، وحضارتها، والوقوف بوجه المخططات الاحتلالية التي تحاك ضد شعوب المنطقة، مما يُهدد الأمن والسلم الدوليين.

إن النضوج الفكري والحضاري والإنساني الذي تتمتع به الإدارة الذاتية أصبح واضحا لأى متابع،  وأحد مؤشراته تلك المكانة المتميزة والرائدة التي تحتلها المرأة في مؤسسات الإدارة الذاتية، والتي أصبحت ملهمة لغيرها من نساء العالم.

إن المرحلة الحالية تتطلب من كافة الدول أن تتحرك حثيثا في اتجاه الاعتراف الكامل بالإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا،  ضمن إطار الجغرافية السورية الواحدة، واعتبارها المظلة السياسية لشعوب شمال وشرق سوريا، لتحقيق اعتراف حقيقي يضمن الاستقرار الدائم للمنطقة، بعدما يدعمها للعمل على تطهير الأراضي من المحتلين،  وفي مقدمتهم الاحتلال التركي الذي يعمل على تأجيج وإشعال الفتنة، وإضرام لهيب الحروب لتطبيق سياسته الاحتلالية الاستعمارية على الأرض السورية، وتهديد الأمن والسلم الدوليين.

إن دعم وإنجاح تجربة الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا،  سيدفع في اتجاه مسار حل الأزمة السورية، حيث إنه سيجعل من تجربة الإدارة الذاتية  نموذجا يحتذى به، ويعمم على كامل التراب السوري، ويمثل خطوة عملية مهمة في اتجاه تأسيس دستور سوري ديمقراطي، يضمن كافة الحقوق، والواجبات، والمبادئ العامة التي يتوجب على  أفراد الشعب السوري التمتع بها في إطار التعددية واللامركزية والديمقراطية التمثيلية الحقيقية، وهذا بدوره سيسهم بقيام سوريا جديدة ديمقراطية تعددية مستقرة مستقلة.

 

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى