آثار عفرين وما تتعرض له من انتهاكات.
تنتشر في مقاطعة عفرين العديد من المواقع الاثرية، بعضها تمتد إلی عصور ما قبل التاريخ، تتحدث عن نشأة الانسان البدائي ومراحل التطور الثقافي لعدد من الحضارات لعل أبرزها الحضارة (الهورية- الميتانية) اسلاف الشعب الكردي في منتصف الألف الثالث قبل الميلاد؛ ولتزدهر بعدها عدد من الحضارات اللاحقة كالحثية والإغريقية والرومانية- البيزنطية والإسلامية، حيث تمتلك كل حضارة شواهد لها في المواقع الأثرية المنتشرة في المقاطعة التي ترزح تحت الاحتلال في وقتنا الراهن.
تعرضت مقاطعة عفرين في بداية عام 2018م إلی الاحتلال من قبل الجيش التركي والفصائل الموالية له، وتسببت النزعة القومية والدينية المتطرفة للمحتلين بانتهاكات فظيعة للتراث الثقافي، المادي واللا مادي، للمقاطعة المحتلة، بلغت مستويات خطيرة في مقياس الإبادة الثقافية والتطهير العرقي، من خلال نهب وتدمير المظاهر ذات القيمة التاريخية، والإهمال المتعمد في عمليات الترميم والصيانة، لكل من الآثار والمزارات والمعابد الإيزيدية، بالإضافة إلی عمليات التهجير القسري للسكان الأصليين وفرض مناهج الأسلمة المؤدلجة علی كل من تبقی من السكان الأصليين وعلی الوافدين من النازحين والمستوطنين، وبلغ الأمر تجريف المزارع والقبور وقطع مئات الآلاف من أشجار الزيتون وزراعة أشجار من أصناف أخری مكانها كالصنوبر والسرو والصفصاف، واستبدال أسماء القری والمناطق بأسماء غريبة عن ثقافة المقاطعة، وذلك استنادا إلی تأكيدات الشهود العيان والتقارير الحقوقية الواردة عن المناطق المحتلة.
تعتبر عمليات تدمير المواقع الأثرية ونهبها وحتی إهمالها من العمليات الخطيرة التي تمهد لتزوير التاريخ وترسيخ الظلم ومعاناة آلاف البشر، بالإضافة إلی ما تلحقه من ضرر بالإرث الثقافي الإنساني، وتعتبره المواثيق الدولية المعنية من الانتهاكات الخطيرة.
- الوضع الحالي للمواقع الأثرية.
لا تزال المواقع الأثرية تتعرض لعمليات النهب من قبل تجار الآثار، والإهمال المتعمد في الترميم بعد الأضرار التي لحقت بها جراء عمليات احتلال إقليم عفرين والزلزال والظروف الجوية المتقلبة. والتخريب والتنقيب غير الشرعي من قبل الفصائل المسلحة التي تمنع المنظمات الدولية المعنية بحماية الآثار من القيام بواجباتها. وكل هذه الانتهاكات تحدث أمام أنظار سلطات الاحتلال (الدولة التركية وعناصر مرتزقتها من الفصائل المسلحة) دون أن يكون هناك رادع قانوني، وما يشجع هذه الأعمال استراتيجية الإبادة الثقافية تجاه الكرد التي تنتهجها السلطات التركية داخل دولتها وخارجها، بحسب ما وثقته العشرات من التقارير الحقوقية منذ سنوات عديدة، وهناك أيضا الفصائل المسلحة التي لا تمتلك أي اهتمام بقيمة هذه الآثار من الناحية العلمية- التاريخية، بسبب تعارض عقيدتها السياسية والدينية مع الإرث الثقافي المادي واللا مادي المتأصلة في جغرافيا عفرين، فلهم نظرة تكفيرية تجاه الإيزديين والعلمانيين الكرد، وكذلك وجود فوبيا أو عقدة الأصنام في العقيدة الإسلامية، الأمر الذي يقلل من القيمة الحضارية والتاريخية للآثار بالنسبة إليهم خاصة مع وجود فتاوي تحلل بيعها آو تدميرها ما دامت تخدم تمويل العمل الجهادي الخاص بهم؛ ناهيك عن النزعة العنصرية العربية المتطرفة تجاه الكرد بفعل الأيديولوجيات القومية التي تغلغلت في المنطقة منذ الحرب العالمية الأولى.
لدی مقارنة واقع المواقع الأثرية قبل وبعد الاحتلال يمكن ملاحظة مدی الضرر الذي لحق بها، فبحسب صحيفة هيرالد تريبيون الأميركية هناك صور جوية تظهر بان الأسد البازلتي في موقع عين دارة لم يعد موجودا إذ على الأرجح تم سرقته و نقله الى الداخل التركي، وكانت شبكة عفرين بوست قد عرضت شريط فيديو يظهر مقاتلين من الفصائل المرتزقة الموالية لتركيا وهم يقومون بتدريبات بالذخيرة الحية في موقع عين دارة، حيث تم تحويل الموقع الأثري المصنف على لائحة اليونيسكو إلى نقطة عسكرية للاحتلال التركي، و في ذات السياق قامت وزارة الأوقاف التابعة للاحتلال التركي في ولاية هاتاي بتحويل مزار نبي هوري الأثري إلى مسجد بعد قيامها بعملية ترميم للموقع الذي تعرض لعمليات جرف وسرقة من قبل العناصر التابعة للفصائل المرتزقة ( بحسب المرصد السوري )، وبحسب المهجرين من تلك المناطق وبعض المتبقين تم اغلاق أغلب المناطق الأثرية أمام السكان وتم تحويلها إلى مواقع وقواعد عسكرية، الأمر الذي يجعلها عرضة لعمليات الجرف والتنقيب و السرقة من أجل بيع ما يتم اكتشافه في الأسواق السوداء بمبالغ ضخمة.
جرت محاولات من قبل بعض الناشطين للاطلاع علی حالة المواقع الأثرية في مقاطعة عفرين إلا أنها اصطدمت برفض الفصائل المسلحة، من جانبها السلطة التركية التي تمتلك وصاية سياسية وعسكرية علی سلطة هذه الفصائل كقوة احتلال، لا تمنع الانتهاكات التي تتعرض لها المواقع الأثرية في عفرين، بل أحيانا تبدو سياساتها في هذه المنطقة كعامل تشجيع علی هذه الانتهاكات خاصة انها تتقاطع مع سياستها القمعية تجاه الحلول المقترحة للقضية الكردية. أما بالنسبة لمنظمة اليونسكو هناك اهمال وظيفي وعدم تحمل لمسؤولياتها تجاه الأعمال التي تنتهك مواثيقها الخاصة بحفظ وحماية التراث العالمي، خاصة أن موقع عين دار مدرج على قائمة التراث العالمي التابعة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو)
- حماية المواقع الأثرية والتدابير الممكنة.
بلا شك تمتلك المواقع الاثرية قيمة علمية وتاريخية لا تقدر بثمن ليس لأنها تمثل ثقافة شعبا ما، ولكنها تعد جزء من التراث الإنساني العالمي، لذلك فإن مسؤولية حمايتها تقع علی عاتق المجتمع الدولي وبشكل أكبر الأركولوجيين والانثروبولوجيين حول العالم، إلا أن الذي يتحمل المسؤولية بدرجة أكبر هي منظمة اليونسكو التي لم تستجب حتی الآن بشكل فعّال لإيقاف عمليات التنقيب غير الشرعية والأعمال التخريبية في المواقع الأثرية الموجودة في المناطق المحتلة من مقاطعة عفرين.
وإذا استمر الوضع المزري للمواقع الأثرية، وبقيت الأعمال التخريبية دون رادع، لن يبقی حجر في مكانه وستتحول هذه المواقع إلی خرائب وستصبح أثرٍ بعد عين. وبما أن هناك تقاعس من قبل الجهات الدولية المعنية بحماية الآثار، يتحتم علی الجهات الحقوقية والإدارة الذاتية القيام بحملة عالمية لمناشدة الاكاديميات التي تدرس علم الآثار وعلماء الآثار، وفرق التنقيب الأجنبية التي كانت قد نقّبت في هذه المواقع، ومنظمة اليونسكو، من أجل التدخل لحماية المواقع الأثرية في مقاطعة عفرين.
وفيما يلي لمحة مختصرة عن أهم المواقع الأثرية في مقاطعة عفرين المحتلة:
- كهف دودري:
الموقع: يقع هذا الكهف جنوبي مدينة عفرين على بعد 15 كم الى الجنوب الشرقي من قرية برج عبدالو ويعتبر موقعاً ذاخراً لنشاط الانسان الحجري، في الحد الشرقي من وادي نهر عفرين، على الضفة اليسرى من واد يعبر المنحدر الغربي من جبل ليلون، وتسميته كردية وتعني الكهف ذو البابين.
أبرز الاكتشافات:
تم اكتشاف هذا الكهف عام 1978 وبعد مرور ستة عشر عام من التنقيب من قبل فريق ياباني وسوري تم اكتشاف بقايا مستحاثه إنسانية في الكهف وتبين ان العظام تنتمي الى انسان نياندرتال، وأُكتشف هيكل عظمي كامل لطفل تم تقدير عمره بسنتين.
أهمية الموقع:
يعتبر كهف دودري مهماً جداً إذ ان اكتشاف هيكل عظمي لطفل يعتبر اول هيكل عظمي كامل أُكتشف في مدفنه الأصلي وهذا يعتبر حدثاً مهما وفريداً من نوعه، ويقول العالم الياباني (تاكيرا آكازاوا) الذي أشرف على تنقيب كهف دودرية بأن الانسان الأول قد خلق في افريقيا وانطلق شمالاً باتجاه آسيا وان هذه الانطلاقة هي بداية الحياة البشرية في العالم، ويعتبر هذا الموقع انطلاقة من مرحلة المشاعة البدائية الى مرحلة سكن المدن والأرياف واكتشاف وسائل الري والزراعة.
- نبي هوري:
الموقع: يقع موقع نبي هوري في أقصى الزاوية الشمالية الشرقية من مقاطعة عفرين على مسافة 45كم وبينها وبين بلدة بلبل 10 كم وتبعد 2كم عن حدود شمال كردستان.
أبرز الاكتشافات وأهميتها:
تحيط الموقع اسوار دفاعية متينة التي حصنت قلعتها والعائدة الى الحقبة البيزنطية وسيطرت على جهاتها الأربعة بأربع أبواب، وبحسب عضو هيئة الاثار في عفرين (صلاح سينو) يعتبر موقع نبي هوري من أهم المواقع وخاصة مسرحها الروماني تعتبر من اهم المسارح الرومانية القديمة في سوريا ومصنفة على لائحة اليونيسكو.
- عين دارة:
هي مدينة اثرية غربي قرية عين دارة بمسافة 1 كم وعلى مسافة 5 كم جنوبي مدينة عفرين، تحيط به سهول خصبة من ثلاث جهات ويحده نهر عفرين من الغرب على 800 م وأيضا يخترق الموقع جدول ماء (نبع عين دارة).
كان يحتوي الموقع على آثار ومعابد يضم تماثيل مختلفة تمثل حيوانات مجنحة وتماثيل (أبو الهول) ونقوش ولوحات مثل (لوحة بازلتية تمثل الإلهة عشتار)، بالإضافة إلى قرية زراعية من العصر الحجري الحديث سكنها الانسان منذ حوالي عشرة آلاف عام ومعبد أثرى يعود إلى الإمبراطورية الهورية والمعبد مقام على طراز هيلاني وهو نمط هوري متياني، وأيضا يحتوي الموقع على اسد بازلتي ضخم تم العثور عليه عام 1955.
هذا بالإضافة إلى العشرات من المواقع الأثرية المصنفة على لائحة اليونيسكو الشاهدة على الحضارة والوجود الكردي في مدينة عفرين المحتلة، إلا أننا حصرناه في هذه المواقع الثلاث على سبيل المثال لا الحصر.