الزلزال وتداعياته على الساحة السورية

بين الواقع والسياسة

 

لا تزال المنطقة على وجه الخصوص والعالم على وجه العموم يعيش حالة من الحزن والتعاطف مع ضحايا الزلزال المدمّر الذي ضرب كلًّا من سوريا وتركيا في السادس من شباط/فبراير، حيث كان الزلزال الأوّل بقوة /7.8/ درجة وتلاه زلزال آخر بقوّة / 7.6/ درجة كما تلته العديد من الهزّات الارتدادية، وقد ترك هذا الزلزال الذي يُعتَبَر الأعنف في المنطقة أضرارًا كبيرة، حيثُ حصد آلاف الأرواح ولاتزال الحصيلة تتزايد مع استمار عمليّات البحث تحت الأنقاض، كما خلّف آلاف الجرحى، هذا إلى جانب المفقودين الذين لايزالون تحت الأنقاض والذين لم تتمكّن فرق الإنقاذ من الوصول إليهم لأسباب أهمّها ضعف الإمكانيات وشحّ المعدّات واتّساع رقعة المناطق المتضرّرة، يُضاف إلى هذه الخسائر البشرية الحجم الهائل من الخسائر المادية.

في هذه الورقة التحليلية سنحاول تسليط الضوء على بعض النقاط ومنها  التوقيت الصعب للزلزال بالنسبة للمنطقة والوضع السياسي العام، ومنها أيضًا أنّ الزلزال قد كشف حقيقة الأطراف المنخرطة في الأزمة السورية، كما سنتناول فيها أيضًا موقف الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا من الكارثة، وكذلك أسباب رفض كلّ من المعارضة والنظام لمساعدات الإدارة الذاتية.

  • الزلزال والتوقيت الصعب بالنسبة للمنطقة:

جاء هذا الزلزال متزامنًا مع ماتشهده كلّ من تركيا وسوريا من خلافات ونزاعات وأزمات داخلية، فتركيا على أبواب الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وتشهد حالة من الصراع بين الأطراف المتنافسة في تلك الانتخابات، بالإضافة إلى أزمتها الاقتصادية التي باتت تؤرّق الحكومة وتشكّل ضغطًا كبيرًا عليها.

 أمّا سوريا فحالتها لاتخفى على أحد، فهي البلد المتهالك المنقسم على نفسه بسبب الأزمة التي يشهدها منذ أكثر من عقد من الزمن، وما خلّفته تلك الأزمة من تداعيات على الأرض، حيث الاقتتال الداخلي بين الأطراف المتنازعة، والوضع الاقتصادي الهزيل الذي بات يرهق كاهل المواطن أوّلًا، والأطراف المتنازعة ثانيًا، بسبب انخفاض مستوى الليرة السورية إلى أرقام قياسية مخيفة، بالإضافة إلى التدخّلات الإقليمية والدولية في الأزمة في سوريا والتي زادت من تعقيد المشهد يومًا بعد يوم.

لقد كان هذا الزلزال العنيف في المنطقة بمثابة الرقم الطارئ الذي غيّر في المعادلة، وبالتأكيد فإنّ ما بعد الزلزال سيكون مختلفًا تمامًا عمّا قبله، حيث أذهل الزلزال جميع الأطراف بسبب قوّته وأضراره وفجائيته.

  • الزلزال أزاح الستار وكشف الحقائق على الأرض:

إنّ الكوارث والمحن عادة ما تكشف الوجه الحقيقي للبشر والجماعات ومواقف الدول، وفي ظلّ تداعيات هذا الزلزال العنيف فقد كُشِف الغطاء عن المستور، وبدا الوجه الحقيقي لكلّ طرف من الأطراف الموجودة على الأرض السورية.

تركيا وفصائل المعارضة: لم يعد خافيًا على أحد أنّ فصائل المعارضة السورية المتخاصمة فيما بينها على اقتسام الغنائم في المناطق التي تحتلّها تركيا تأتمر بالأوامر التركية، ولاتجرؤ على اتّخاذ قرار أو موقف من حدث ما دون موافقة السلطات التركية، ولامجال للشكّ أيضًا أنّ تركيا لم ولن توافق على عبور تلك المساعدات من مناطق الإدارة الذاتية إلى مناطق سيطرة المعارضة، ولم تكتفِ تركيا بالرفض بل هناك معلومات تفيد بأنّ بعض الفصائل المسيطرة على المشهد في الشمال السوري المحتل قد تلقّت أوامر بإطلاق النار على كلّ فصيل أو حتى شخص يحاول إدخال المساعدات واستلامها من طرف الإدارة الذاتية، هذا الموقف التركي يأتي بسبب خوفها من انفراجات مُحتمَلة قد تحدث بين المعارضة السورية أو على الأقل بعض فصائلها من طرف والإدارة الذاتية من طرف آخر على المستوى السياسي، وبالتالي فإنّ حدوث مثل هذا الانفراج سوف يسحب البساط من تحت أقدام تركيا، وربّما تتحوّل بعض الفصائل المعارِضة (خاصّة تلك الرافضة لمصالحة تركيا مع النظام السوري) وتغيّر بوصلتها إلى المصالحة مع الإدارة الذاتية وهذا ما لا ترضاه تركيا، ليس خوفًا من تلك الفصائل ودورها في المشهد السوري، وإنّما خوفًا من حالة انفراج للأزمة السورية برمّتها وبالتالي لن تبقى أمام الدولة التركية أيّة حجّة للبقاء على الجغرافيا السورية كدولة احتلال، فمن الطبيعي أنّ الأطراف السورية عندما تتقارب فيما بينها لن يبقى للوجود التركي أيّ مبرّر.

كما أنّ الزلزال وتداعياته وتعامل فصائل المعارضة السورية مع تلك التداعيات قد كشف أنّ تلك المناطق تشهد حالة من الفوضى والتقصير وتعدّد القوى الموجودة على الأرض وبالتالي تعدّد القرارات، وخير شاهد على هذا الكلام هو تأخّر تعامل فصائل المعارضة مع آثار الزلزال، حيث بقيت الكثير من العائلات عالقة تحت الأنقاض لساعات وأيام دون أن تتدخّل فرق الإنقاذ وقوّات الدفاع المدني، واقتصر العمل في تلك المناطق على المبادرات الفردية والعمل بأدوات ومعدّات بسيطة، وهذا ما تسبّب في زيادة عدد الوفيات، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على استهتار تلك الفصائل بحياة المدنيين هناك، ولاتهمّها الحصيلة التي ستنجم عن الكارثة بقدر ماتهمّها أن تبقى مهيمنة على الأرض.

النظام السوري: كشفت تداعيات الزلزال أنّ مناطق سيطرة النظام ليست في حال أفضل من مناطق سيطرة فصائل المعارضة، فانكشف الستار عن الواقع الهشّ الذي تعيشه مناطق سيطرة النظام السوري من جميع النواحي، حيث الاقتصاد المُنهار والبنية التحية الضعيفة وونقص كبير في الخدمات والحاجات اليومية، وما بين هذا وذاك مواطن أنهكته سنوات الأزمة التي جاوزت عقدًا من الزمن، وقد جاءت المساعدات المقدّمة من بعض الدول العربية لتخفّف قليلًا من صعوبة المشهد، لكن رغم تلك المساعدات إلّا أنّ بعض المعلومات قد أكّدت أنّ تلك المساعدات لا تصل إلى المحتاجين والمتضرّرين بالشكل المطلوب، وهناك خلل في آلية توزيع تلك المساعدات و إيصالها إلى مستحقّيها.

  • رفض مساعدات الإدارة الذاتية:

الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا وباعتبارها طرفًا فاعلًا على الأرض في سويا، فقد تفاعلت مع الحدث الجلل وقامت بخطوات عملية ودون تردّد، فقد أعلنت على الفور تجهيز قافلة مساعدات تحوي موادّ إغاثية وطبية ومحروقات لتوجيهها نحو المناطق المتضرّرة جرّاء الزلزال في مناطق سيطرة المعارضة السورية ومناطق سيطرة النظام، جاء هذا الإعلان من طرف الإدارة الذاتية رغم الخلافات التي تشهدها الساحة السورية سياسيًا وعسكريًا، لكن هذه الإدارة وجدت أنّ الخلافات مهما كان حجمها بين الأطراف على الأرض فإنّها في مثل هذه الظروف الصعبة توضع جانبًا ويتمّ التعامل مع الطرف المقابل من منطلق إنساني ووطني بعيدًا عن الأزمة السياسية في البلاد للتقليل من الأضرار.

جاءت هذه الخطوة من طرف الإدارة الذاتية على الرغم من إعلان الأطراف الأخرى رفضها لتلك المساعدات، وقد ادّعت بعض القنوات الإعلامية للمعارضة وبعض مسؤوليها أنّ الإدارة الذاتية بإقدامها على مثل هذه الخطوة قد فرضت بعض الشروط للتسليم، كما ادّعت أيضًا أنّ الإدارة إنّما تحاول تلميع صورتها أمام العالم للحصول على مكاسب ومزايا، لكنّ الإدارة الذاتية ورغم كلّ ذلك أصرّت ولاتزال مصرّة على إدخال تلك المساعدات وإيصالها إلى المتضرّرين في المناطق المنكوبة لتخفيف معاناتهم الكبيرة، وقد ذكر مسؤولون في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا أنّ كلًّا من فصائل المعارضة وقوّات النظام السوري قد رفضت استلام تلك المساعدات، كما أنّ وسائل الإعلام المحلية و العربية والعالمية قد أكّدت أنّ قواقل المساعدات قد بقيت لعدّة أيام على المعابر  بين مناطق الإدارة الذاتية ومناطق كلا الطرفين بانتظار السماح لها بالعبور.

هذه ليست المرّة الأولى التي كانت الإدارة الذاتية سببًا في توحيد الموقف بين المعارضة والنظام، وهذا التعامل من قبل المعارضة والنظام مع الإدارة الذاتية ليس غريبًا عليهما، فحتّى في حالات الكوارث الطبيعية يقومان بإقحام السياسة وتداعياتها، ويمكن القول بأنّهما يرفضان تلك المساعدات لعدّة أسباب، منها:

 1- كلاهما يجد أنّ استلام المساعدات من الإدارة الذاتية يُعتبَر تنازلًا من قبلهما للإدارة الذاتية واعترافًا

     ضمنيًا بوجودها على الأرض، وهذا ما لاترضاه تركيا ( سيدّة المعارضة و الحليف الخفيّ الجليّ للنظام).

2- يخشى الطرفان أنّ مثل هذه الخطوة من قبل الإدارة الذاتية يمكن أن تكون ورقة قويّة تُحسَب لها، ويمكن أن

     تستفيد منها الإدارة الذاتية في أيّة مفاوضات مستقبلية بين السوريين.

3-  قيام الإدارة الذاتية بتقديم المساعدات لتلك المناطق إنّما يدلّ على الحسّ الوطني السوري الذي تمتاز به

     الإدارة الذاتية، عكس ما يروّج الطرفان بأنّ هناك نوايا انفصالية لها، وهما يرفضان المساعدات كي لا

     يثبت للمجتمع الدولي بأنّ هذه الإدارة وطنيّة بامتياز وتتحرّك وفق معايير وطنية لاغير.

4- يضع الطرفان شروطًا لاستلام المساعدات وأبرزها الحصول على نسبة كبيرة من تلك المساعدات مقابل
إيصال النذر اليسير منها للمواطنين المحتاجين المتضرّرين من الزلزال.

إنّ الإدارة الذاتية لم تكتفِ بتقديم المساعدات ومدّ يد العون للمناطق المنكوبة جرّاء الزلزال، بل ذهبت إلى أكثر من ذلك، حيث أعلنت يوم الأحد 12/2/2023 فتح كافة معابرها أمام المساعدات الإنسانية للعبور إلى المناطق المنكوبة، كما وجّهت بتقديم التسهيلات كافّة لذلك، كما أعلنت الاثنين 13/2/2023 أنّها قد سهّلت عبور شاحنة مساعدات إغاثية تابعة لمنظمة “أطباء بلاد حدود” إلى المناطق المتضرّرة بسبب الزلزال في شمال غربي سوريا، وقد عبرت  تلك الشاحنة من معبر “أم جلود” بمنبج، باتجاه شمال غربي سوريا.

ختامًا، يمكن القول بأنّ كارثة الزلزال المدمّر ورغم المآسي التي خلّفتها ربّما تكون فرصة جيّدة كي تقوم جميع الأطراف على الساحة السورية بمراجعة نفسها وإعادة حساباتها، وربّما تكون هذه الكارثة بالنسبة للأزمة السورية بمثابة ضوء خافت في ليل دامس، وقد يكون الزلزال وتداعياته سببًا في انفراجة قد تحدث على الصعيد السياسي و العسكري والاقتصادي، رغم أنّ الوقائع على الأرض حتّى اللحظة لا تشير إلى ذلك، ولكن يبقى الواقع السوري مفتوحًا على كافة الاحتمالات، وليس من المستبعَد حدوث تغيّرات وتحوّلات في المشهد السوري عمومًا بعد الزلزال العنيف الذي قد يزلزل الساحة السياسيّة في سوريا كما زلزل الأرض، ولكن نتائج زلزلة الساحة السياسية قد تكون خيرًا على السوريين.

زر الذهاب إلى الأعلى