المانيفستو الثالث لأوجلان والأسئلة المكثّفة قراءة أبستمولوجية – تحليلية في أبعاد بيان “السلام والمجتمع الديمقراطي”
أحمد بيرهات

من الواضح، وبشكل لا ريب فيه، أهمية البيان الذي تلاه أعضاء وفد إمرالي بعدة لغات في 27شباط 2025 بمدينة إسطنبول، وبحضور أكثر من 300 صحفي وإعلامي من مختلف الجنسيات.
البيان الذي كتبه أوجلان (مع حفظ الألقاب) بخطّ يده، يبدأ بإعادة قراءة تجربة حزب العمال الكردستاني (PKK) في ضوء التحوّلات الفكرية والسياسية التي تشهدها المنطقة والعالم منذ نهاية القرن العشرين، والأخيرة التي بدأت من غزة واستُكمِلت في جنوب لبنان وسوريا، وتداعياتها المستقبلية على تركيا وإيران وروسيا وأوكرانيا والهند والصين مستقبلاً؛ ممّا يثير تساؤلات حول عاملَي الزمان والمكان في توقيت هذا البيان، ومدى إمكانية تطبيقها في ظلّ تعنّت الدولة التركية وامتناعها عن اتّخاذ خطوات عملية نحو التحوّل الديمقراطي وتحفّظها الدائم على أي انفتاح تجاه الكرد، كما يشير البيان – في عمقه – إلى أهمية دور القوى والأحزاب التركية والكردية في هذه المرحلة، إضافة إلى التأثيرات الإقليمية والدولية عليها.
القارئ لأفكار أوجلان يدرك أنَّ البيان يحمل في طياته أسئلة كثيرة في شتّى المجالات التاريخية والفلسفية والسوسيولوجية، تتطلّب الإجابة عنها قراءةً متأنّية لما بين السطور.
كل ذلك يقودنا إلى التركيز على أبعاد هذا البيان وتحديد العمق الفكري الموجود فيه، كمحاولة ومساهمة لفهم مآلاته التي ستؤثّر – بلا شكّ – على مجريات الأحداث الجارية في المنطقة مستقبلاً.
يحمل البيان شجاعة جادّة في الدعوة إلى إسكات الأسلحة وإعلاء صوت السياسة لحلّ القضية الكردية، التي كادت أن تتحوّل إلى أزمة عصيّة على الحلّ في الشرق الأوسط؛ حيث عاش معها سكان المنطقة أكثر من مئة عام من عدم استقرار، وتحوّل السلام خلالها إلى مجرّد يوتوبيا.
علينا أن نتّفق أولاً أنَّ بيان أوجلان موجّه بالدرجة الأولى إلى حزب العمال الكردستاني والدولة التركية على حدّ سواء؛ وعلى هذا الأساس لابدّ من مناقشة الأسئلة المكثّفة في أبعادها الفكرية والثقافية والسياسية والتاريخية والاجتماعية والعسكرية، والخوض في تفاصيلها؛ مثل: ما أهمية هذا البيان؟ كيف يمكن للدولة التركية أن تستجيب له؟ ما التحدّيات المحتمَلة لتطبيقه؟ كيف يمكن تثبيت جدّية الطرفَين؟ ما هي الإجراءات المطلوبة لإنجاح مبادرة أوجلان؟ ما هي الخطوات القانونية والسياسية لبدء المفاوضات؟ ما دور الإعلام في ذلك؟ كيف سيوثّر كلّ ذلك على حلّ القضية الكردية والتحوّل الديمقراطي في المنطقة؟
أبعاد بيان “السلام والمجتمع الديمقراطي”:
البُعد الفكري والثقافي:
يعكس البيان التحوّلات التي طرأت على حزب العمال الكردستاني، من رؤية اشتراكية متأثّرة بالفلسفة الماركسية اللينينية إلى مقاربة أكثر توافقيةً مع الديمقراطية الاجتماعية والبيئية والنسوية، يؤكّد البيان أنَّ الحلول القائمة على أساس الدولة القومية لم تعد كافية في عالم اليوم.
تتماشى هذه النقلة مع ما طرحه أوجلان منذ عام 2005م حول “الكونفدرالية الديمقراطية”، التي تقوم على الإدارة الذاتية الديمقراطية ضمن إطار الدولة القائمة، بدلاً من السعي وراء دولة قومية مستقلّة تغلق نفسها وفق معطيات غير واقعية تماماً.
وما أتى به بيان 27 شباط كان مكثّفاً جدّاً، ويؤكّد على ما دوّنه أوجلان في مجلّداته الخمس، وتحديداً المجلد الخامس المعنوَن بـ”مانيفستو الحضارة الديمقراطية، القضية الكردية وحلّ الأمّة الديمقراطية” مع أخذ بعض المعطيات والمستجدّات الحالية بعين الاعتبار.
وعليه؛ يُجري أوجلان تقييماته ودراسته التي تتّخذ البُعد الأبستمولوجي، ووفق أسس تاريخية وسياسية واستشراف علم اجتماع جديد ينتقد من خلالها الأفكار التي لا تجلب معها السلام، ويطرح حلولاً بديلة ذات أسس تنظيمية وتعبير حرّ، ويحمل معه فلسفة الواقعية الثورية من خلال التوافق بين الدولة والمجتمع وفق المعادلة الأوجلانية “الدولة + الديمقراطية”، وعلى أساسها يرى أوجلان أنّ الحلّ يكمن في بناء المجتمع الديمقراطي، ويفتح المجال في بيانه الباب أمام طرح أسئلة كثيرة ملتبسة تارةً ومثيرة للشكوك تارةً أخرى، ويفتح المجال لتأويلات كثيرة والخوض في نقاشات مستفيضة؛ فهذا البيان – رغم أنّه جاء مختصراً جداً – إلّا أنّه يجمع الكثير من الأفكار ويُعَدُّ من خلاصة أفكاره مجتمعة، (هذا البيان أظهر الشخصيات القارئة والمتعمّقة في فلسفة أوجلان والمدركين لها، من عدمه بكلّ وضوح).
البيان ينتقد إرث الاشتراكية الواقعية التي بقيت في السلطة لـ 70 عاماً، ويشير في هذا الخصوص إلى أنَّ حزب العمال الكردستاني استمدّ أيديولوجيته في البداية من هذه النظم الاشتراكية في القرن العشرين، واستطرد بالقول: “لقد تأثّر (الحزب) بشكل كبير بواقع النظام الاشتراكي الواقعي في القرن من حيث النظرية والبرنامج والاستراتيجية والتكتيكات”. (بيان السلام والمجتمع الديمقراطي)
ومع فشل نماذج الدول الاشتراكية وعدم ملاءمتها للواقع الكردستاني الحديث، قام بالتحوّل الفكري الثاني من معتقله في إمرالي بتقديمه لـ”مانيفستو الحضارة الديمقراطية” المستندة بشكل كامل على الإرث الطبيعي الإنساني بكل تفاصيله والقيام بمراجعة جذرية للمراحل المنصرِمة، ووضع أسساً جديدة من خلال تجاوز هذه النظم التي لم تُبنَ على أسس مجتمعية، واستكمل الآن من خلال طرح مانيفستو المجتمع الديمقراطي، وتُعَدُّ الثالثة في مسيرته الفكرية، المبنية على ضرورة أخذ المعطيات الجديدة في العالم وإجراء التغييرات المطلوبة لمواكبة المرحلة الراهنة، والاندماج الكامل مع الدولة والسير بها نحو المجتمع الديمقراطي.
البُعد السياسي والتاريخي:
يتضمّن البيان تحوّلاً وتكاملاً سياسياً وتاريخياً، وهذا يعني إدراك أوجلان أنَّ الظروف السياسية قد تغيّرت، وأنَّ استمرار العمليات العسكرية التركية والردّ عليها من خلال الكفاح المسلّح لم يعد منتجاً، وسيُعَدّ تكراراً في ظلّ المتغيّرات الإقليمية والدولية الحاصلة وتحديداً في الشرق الأوسط، خاصةً مع انفتاح بعض التيارات السياسية التركية على مناقشة القضية الكردية بطرق مختلفة عن الماضي ولو كانت بشكل نسبيّ، فقد علّق رئيس حزب الشعب الجمهوري أوزكور أوزال على هذا البيان قائلا”: إنَّ الدعوة الموجّهة للمنظمة الإرهابية بإلقاء السلاح وحلّ نفسها أمر مهمّ، ونأمل أن تؤدّي إلى وضع حدّ للإرهاب إلى الأبد، وقد تسبّب بأضرار اقتصادية واجتماعية جسيمة، لن يسمح حزب الشعب الجمهوري باستغلال مطالب المجتمع بالسلام والديمقراطية من قبل أي سلطة أو منصب أو جهة لتحقيق أهدافها السياسة الخاصة”. (موقع قناة الحرة)
فالبيان تعامل مع العلاقة التركية-الكردية من منظور تاريخي طويل، (هذا أسلوب ونسق يتميّز به أوجلان)، حيث يشير إلى أنَّ هذا التحالف دام لأكثر من ألف عام، لكنه تأثّر سلباً بسياسات الحداثة الرأسمالية والتوجّه القوميّ المتطرّف الذي فرضته الجمهورية التركية الحديثة، لذا؛ يدعو البيان إلى إعادة بناء هذه العلاقة على أسس جديدة تقوم على “الأخوة” و”الديمقراطية”، وهو ما يعكس توجّهاً أكثر تصالحياً من السابق وكانت تشوبها بعض ردّات الفعل جراء الأفعال المتبادلة بين الطرفين؛ فأوجلان يدرك أنَّ الخلافات الموجودة بين الدولة التركية تاريخية وعميقة، وكانت بفعل تأثير مسارَين متلازمَين: خارجيّ بفعل سياسة الحداثة الرأسمالية، وداخليّ بفعل سيطرة الفكر القومي والفاشي، يتم تسمية هذين المصطلحَين معاً في مجلّده الخامس، الصادر في نهاية عام2010م، بـ”التركياتية البيضاء والخضراء والسوداء” خلال تواجدها وترسُّخها في بنية الدولة التركية حتى الآن، وجاءت هذه الإشارة في البيان بمصطلح “علم الاجتماع التاريخي” والتي تعني: “الفحص المنهجي للماضي بهدف إثراء وإعادة بناء النتائج والنظريات التجريبية حول العالم”. (موقع سوسيولوجي مباشر)
يُعتقَد أنّ هذا البيان لا يشكّل رؤية أوجلان وحده، بل كانت هناك مقدّمات لها وعلى أساسها تمّت كتابة هذا البيان، وطُرحت من خلاله أفكار توافقية تعكس نظرة الأحزاب الكردية والتركية وبعض الشخصيات الاعتبارية المؤثّرة التي أرسل إليهم هذه الرسائل، والتركية منها بشكل خاص، ويمكن ملاحظة ذلك في الردود الإيجابية التي خرجت بعد ساعات قليلة من إلقاء البيان من كل الأطراف تقريباً، وعلى أساسه “تحوّلت الكرة للملعب التركي”.
البُعد الاجتماعي:
يشدّد البيان على ضرورة إنشاء “مجتمع ديمقراطي”، حيث يكون لكلّ فئة القدرة على التعبير عن هويّتها بحرية ضمن إطار سياسي واجتماعي مشترَك.
أوجلان يتبنّى، وفق مجلّداته الخمس وما تلاه من أحاديث عنه، رؤية قائمة على التنوّع الثقافي والاعتراف بالهويات المختلفة ضمن دولة واحدة، بدلاً من السعي إلى كيانات مستقلّة تقوم على الانتماءات العِرقية أو القومية؛ فأوجلان، بصفته مفكّراً وعالم اجتماع، يدرك مسبقاً بأنَّ الصراعات القومية المغلقة تؤدّي غالباً إلى مزيد من التشرذم والعنف، بدلاً من تحقيق العدالة والاستقرار، وقد أكّد في البيان قراءته السابقة بالقول:
“وقد اكتسب حزب العمال الكردستاني، الذي يمثل أطول حركة تمرد وعنف شاملة في تاريخ الجمهورية، القوة والدعم بسبب إغلاق القنوات السياسية الديمقراطية”. (بيان السلام والمجتمع الديمقراطي)
بهذا المعنى؛ فهو يضع المسؤولية أيضاً على الدولة التركية بشكل واضح لا التباس فيه، وأنّها يجب أن تفتح المجال لحلّ سياسي وديمقراطي حقيقي يضمن الاعتراف بالحقوق الكردية ضمن نظام سياسي عادل وديمقراطي.
البُعد الاقتصادي:
يشدّد البيان على أهمية إحلال السلام وبناء مجتمع ديمقراطي من خلال العمل الجدّي لإيقاف الحرب، والبيان يذكر التاريخ المشترك، ويدعو الى إعادة تصحيح علاقات الشعبَين والتي تضرّرت في القرنَين الماضيين بشكل كبير؛ وذلك نتيجة استمرار الصراعات والحروب ضدّ الكرد وفرض العقلية الأُحادية على المجتمع، وتسخير نسبة كبيرة من ميزانية الدولة واستنزاف مواردها وثرواتها في حروب” لا ناقة ولا جَمل” للشعوب فيها لصالح فرض أجندات فئة “أوليغارشية” بذاتها على إرادة مجتمع بأكمله وإشغاله بالأزمة الاقتصادية، وهذا يعني تلقائياً، مدى تأثير ثقافة الحرب على الاقتصاد؛ وما يؤكّد هذا الاستنتاج هو ما صُرّح به مؤخّراً بأنَّ” تركيا قد صرفت /2/ تريليون دولار في حربها ضدّ حزب العمال الكردستاني”. لنطرح هنا سؤالاً بسيطاً: ماذا لو صُرِف هذا المبلغ الهائل في بناء المدارس والمعاهد والجامعات وتوفير مستلزماتها وبناء المستشفيات والمستوصفات ودعم الأبحاث العلمية بكلّ أشكالها وأنواعها، وتطوير المشاريع الزراعية والصناعية وما إلى هنالك من تقديم الخدمات لتقليص حجم المشاكل الاجتماعية والصحّية والتعليمية.
إنّ الإشارة إلى البُعد الاقتصادي، يعني أنّه يشكّل جانباً مهمّاً لنجاح عملية السلام المنشودة وتطبيق ما يضمنه البيان، ستستفيد منه كلّ شرائح المجتمع، وتُصرَف هذه المبالغ والإمكانيات لصالح المجتمع برمّته وتضعف الذهنية العسكرتارية والمستفيدين من استمرار الحرب.
البُعد العسكري:
تُعَدّ الجملة الأكثر تداولاً بعد إلقاء البيان هي “دعوة أوجلان إلى إلقاء السلاح وحلّ الحزب نفسه، وتحمّله المسؤولية التاريخية لهذا القرار”، عندما قال:
“كما يفعل كلّ مجتمع وحزب معاصر لم يتم إنهاء وجوده بالقوة طواعية، اجمعوا مؤتمركم واتّخذوا قراراً بالاندماج مع الدولة والمجتمع؛ يجب على جميع المجموعات إلقاء أسلحتها ويجب على حزب العمال الكردستاني حلّ نفسه”. (بيان السلام والمجتمع الديمقراطي)
رسائل أوجلان المباشرة إلى من موجّهة؟
السؤال الصعب والذي يُطرح بقوّة هو: ماذا كان يدور في عقله أثناء كتابة كلمات وجمل بيانه المقتضَب ورسائله؟
كما أفهم ذهنية المفكّر أوجلان؛ فإنّ البيان يحمل عدّة رسائل موجّهة إلى:
1- الدولة التركية والمجتمع الدولي: يقدّم أوجلان نفسه كقائد ومنظّر سياسي اجتماعي، ويمتلك شخصية ذات كاريزما، ولديه رؤيته الواقعية والبراغماتية للأحداث، ويبدي مسؤوليته التاريخية، ويعبّر عن استعداده للعب دور محوري في حلّ القضية الكردية؛ فحواه: “لديّ القدرة بل وأستطيع التأثير في مجريات الأمور، وبالتالي يجب التعامل معي بجدّية في أي عملية تفاوضية مستقبلية”.
2- تقديم نموذج ديمقراطي متقدّم بطريقة سياسية وسلمية، من خلال طرح أفكاره التي تأخذ بُعداً سوسيولوجياً، وتدعمه في ذلك الثقة التي منحه ايّاها حزب العمال الكردستاني ومؤسّساته الفكرية والسياسية والاجتماعية والعسكرية، وأهمية تواجده الفعلي ضمن هذه المرحلة كشرط؛ لكونه يمثّل رمزاً نضالياً لديها، وبسبب تأثيره الكبير على المشهد العام في هذه المرحلة العصيبة من تاريخ تركيا وكردستان والمنطقة عامة.
3- حزب العمال الكردستاني: رسالة باطنية “مشفّرة” لتلتقطها قيادات حزبه، فحواها ضرورة أخذ تجربة حركة حماس وحزب الله بعين الاعتبار، والبدء بالتغير بشكل عاجل لمواكبة المرحلة ومستجدّاتها، وأعتقد أنَّ التجاوب السريع مع مضمون ما جاء في البيان من قبل الجهات الفكرية الأيديولوجية والعسكرية في الحزب مع توضيح شروطها، من خلال بيانات رسمية يدخل ضمن هذا الوعي.
4- الفاعلين الأساسيين في المنطقة: أهمية عاملَي الزمان والمكان، وأخذها كأولوية وفق المعطيات الحالية ودورهما في القيام بالتحوّل الديمقراطي في تركيا وكردستان ومدى تأثيرها على الشرق الأوسط ككلّ؛ فالمرونة والبحث عن الحلول بحاجة ماسّة إلى الحكمة السياسية، وقد ظهر ذلك بكلّ وضوح في هذا البيان.
التحدّيات المحتمَلة لتطبيق البيان:
يمكن تكثيفها بعدّة عناوين رئيسية والخوض فيها بعجالة:
- مدى واقعية حلّ حزب العمال الكردستاني لنفسه: من الناحية العملية؛ إنّ حلّ حزب العمال الكردستاني لنفسه ليس قراراً سهلاً؛ نظراً لتداخل العديد من الفاعلين داخل التنظيم وخارجه، والإرث الممتدّ لنصف قرن، نتيجة عدّة عوامل مثل كيفية إقناع الشخصيات المتأثّرة بالماضوية الثورية وفق النموذجَين الماركسي والماوي والقومية البدائية من جهة، وعدم وضوح البدائل السياسية المطروحة للأعضاء والمقاتلين بعد إلقاء السلاح من جهة أخرى، وهذان العاملان بحاجة إلى نقاشات مكثّفة والإجابة عن السؤال الأهم وهو: هل حلّ الحزب يعني عدم تنظيم نفسه مجدّداً باسم وآليات جديدة؟ (يُعتقَد في هذه الحيثية أنَّ نداء أوجلان للحزب أعوام 1999-2009-2013 فيما يخصّ تفاصيل العملية السلمية وقتها، وتجارب الحركات الثورية في دول مثل إيرلندا وإسبانيا وكولومبيا والمكسيك، والتي عاشت تجارب مثيلة، ستكون كفيلة باتّخاذ الحزب تدابيره في هذا المنحى).
- موقف الدولة التركية: تجربة الكرد والمحاولات السلمية لأوجلان وحزبه مع الدولة التركية لا تعطي مؤشّرات إيجابية، إلّا أنَّ هذا الطرح، إضافة إلى قبوله من قبل الجهات المرتبطة بحزب العمال الكردستاني، يتوقّف نجاحه على مدى استعداد الدولة التركية لتقديم “تنازلات” ديمقراطية حقيقية، وهو أمر غير مضمون في ظل السياسات القومية الإقصائية والدونية التي لا تزال مؤثّرة في المشهد السياسي التركي.
حتى لحظة كتابة هذه السطور مازالت التصريحات متفاوتة من الأحزاب التركية والكردستانية والجهات الدولية العديدة فيما يخصّ بيان 27 شباط، وتمّ تداوله في الأوساط الإعلامية والسياسية بشكل كبير، منها ما صرّح به مستشار الرئيس التركي محمد أوجوم في نفس يوم إلقاء البيان، حيث قال أنَّ ” هدف تركيا الخالية من الإرهاب أصبح حقيقة خطوة بخطوة، وأنَّ مدى الامتثال لهذه الدعوة أصبحت الآن مسألة عملية، وأولئك الذين لا يمتثلون سوف يواجهون العواقب، الدعوة غير قابلة للتفاوض وغير مشروطة، والآن يبدأ عصر جديد في تركيا”. (موقع قناة الحرة)
ولتجاوز هذه المعضلة المشار إليها؛ قال أوجلان، وفي سياق بيانه:
“كما يجب تطوير لغة فترة السلام والمجتمع الديمقراطي بما يتوافق مع الواقع”. (بيان السلام والمجتمع الديمقراطي)
لذا؛ فإنّ المرحلة تتطلّب تأسيس وخلق الأرضية المناسبة من قِبل الدولة التركية تحديداً بعد إلقاء هذا البيان.
- مدى تقبّل القواعد الشعبية لمضمون البيان من الجانبَين: على الرغم من أنَّ السيد أوجلان يتمتّع بتأثير كبير وواسع داخل الأوساط الكردستانية، والحركات الديمقراطية والبيئية والاشتراكية في العالم بشكل خاص، إلّا أنَّ هناك احتمالاً لوجود شخصيات داخل الحزب أو أطراف ضمن الحركة الكردية عامة، قد تعارض استمرار هذا التوجّه، وإن لم يطفُ على السطح بعد، خاصةً من بين أولئك هناك من يرى أنَّ الكفاح المسلّح هو الخيار الوحيد لحماية الحقوق الكردية من الدوغمائيين (الوثوقيين)، ويدعم هذا الرأي، التاريخ الدموي للدولة التركية في تعاملها مع الحركات الكردية عامة منذ عام 1925م وغياب وجود رأي عام تركي فاعل منادٍ بالسلام والحلّ السياسي والسلميّ للقضية الكردية، وإن وُجدت فهي على المستويات الشخصية وبعض منظمات المجتمع المدني؛ فتواجدها بسيط ومحدود جداً، نتيجة السياسة الإنكارية وغياب الديمقراطية التي تمارسها الحكومات التركية المتعاقبة منذ أكثر من قرن، والأخيرة، أسّست عقلية متطرّفة ونظرة سلبية ودونية تجاه الآخر المختلف معها؛ وهذا ما يعطي إشارات غير متفائلة وعدم امتلاك بادرة إيجابية في التعامل مع هذه السياسة، كل ذلك ولَّد ردود فعل مماثلة من الجانب الآخر(الكرد) من خلال انتفاضة الشيخ سعيد بيران عام 1925م وتتالت بعدها انتفاضات أخرى، وآخرها ثورة حزب العمال الكردستاني المستمرّة التي اندلعت في سبعينيات القرن الماضي، ونحن اليوم في العام 2025م، كما جاء في بيان أوجلان بكل وضوح:
“وُلِد حزب العمال الكردستاني على أرضية القرن العشرين وإنكار الواقع الكردي، وحظر الحريات، وخاصةً حرية التعبير”. (بيان السلام والمجتمع الديمقراطي)
إذاً؛ لبناء ونجاح المرحلة القادمة، لابدَّ من إزاحة المؤسّسين والفاعلين لما سبق والقائمين بالفعل الإنكاري والذي جلب الردّ العكسي كمضادّ حيويّ طبيعيّ (العنف المضاد)؛ ممّا شكّل تحدّياً وتناقضاً مستقبلياً في بناء الأسس المتينة لمقاصد بيان السيد أوجلان ومدى نجاحه.
الإجراءات الأولية المطلوبة لإنجاح البيان:
يمكن إيجازها في الخطوات التالية:
. وضع الأسس القانونية والسياسية للمساهمة الجدّية في نجاح اللقاءات التي تجري بشكل مخفيّ وتحويلها إلى مفاوضات رسمية وعلنية.
. وقف العمليات العسكرية التركية ضدّ مقاتلي حزب العمال الكردستاني والكرد عامةً، داخل تركيا وخارجها.
. الإفراج عن المعتقلين السياسيّين.
. إفساح المجال للإعلام لتسليط الضوء ونقل صورة إيجابية عن العلاقات التاريخية بين الشعبَين الكردي والتركي ودورهما في بناء البلاد، ومن خلالها وقف خطاب الكراهية والتحريض ضدّ الكرد والداعين لنشر الديمقراطية في تركيا.
. إلغاء صفة الإرهاب عن السيد أوجلان والتفاوض معه رسمياً.
. التزام صارم من حزب العمال الكردستاني بما تضمّنه البيان وإصدار تعليمات صارمة لكل الجهات المرتبطة به وعدم الخروج عن مضمونه. (وهذا ما حصل من خلال إصدار بيانات رسمية من الجهات المعنية والمقصودة تحديداً).
. السماح للأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني والمنظمات النسوية والشبابية في تركيا بممارسة نشاطاتها في أجواء ديمقراطية، لتساهم بإرادتها وذواتها الفاعلة في بناء المجتمع الديمقراطي المنشود.
هذه النقاط ستؤسّس وتخلق أجواءً مناسبة يتمخّض عنها تطبيق البيان بشكل سلس، وتؤسّس لسلام مستدام وفائدة مشتركة.
في ختام هذه القراءة يمكننا التوصّل الى الخلاصة التالية:
يُعَدُّ بيان عبد الله أوجلان المعنوَن بـ “السلام والمجتمع الديمقراطي” الذي قُرئ في 27 شباط 2025م، بلا شكّ، تحوّلاً فكرياً وسياسياً مهمّاً وجادّاً؛ حيث قدّم من خلاله تصوّراً تاريخياً للعلاقة الكردية-التركية وتجربة حزب العمال الكردستاني كَرَدّ فعل على السياسة الإقصائية التركية، وطرح من خلال البيان مرتكزات الحل القائم على الديمقراطية والاندماج الكامل مع الدولة؛ فالبيان حمل رسالة توافقية واضحة تدعو إلى إنهاء العنف والبحث عن حلول سياسية وديمقراطية وحقوقية على أسس علم الاجتماع التاريخي بدلاً من استمرار الصراع والعنف، وأشار البيان كذلك إلى أهمية تجاوز الحلول القومية وما يدور في فلكها من النماذج الإدارية كالفيدرالية أو الحكم الذاتي، فهو لا يحبّذها وينتقدها ولا يجد في هذه النماذج حلّاً في بيانه المشار إليه، كما أنّ تطبيق مضمون البيان يواجه عقبات وتحديات تتعلّق بمدى واقعية تطبيق هذه الأفكار في ظلّ الوضع السياسي المعقّد في تركيا والمنطقة وتداخلها في المستوى الدولي، ويرى بعضهم في الدعوة التي وجِّهت خلال البيان فرصة تاريخية للسلام، بينما يتخوّف آخرون من تداعياتها المحتمَلة، كما وأثار هذا البيان دعوات متباينة بين داعم ورافض لها في الإعلام التركي والكردي والدولي؛ وهذا يعكس تعقيدات المشهد السياسي والاجتماعي المحيط بالقضية الكردية، لكن يبقى نجاح هذه الأفكار والنقاط المذكورة في البيان مرتبطاً بمدى استعداد وجدّية جميع الأطراف، والطرفَين الرئيسيَّين (الدولة التركية وحزب العمال الكردستاني) بشكل خاص، للانخراط في مسار تفاوضي حقيقي يؤدّي إلى حلّ سياسي وديمقراطي واجتماعي شامل، والمهمّ في هذه المرحلة هو إبراز الإرادة السياسية التي ستشكّل المعرفة الصائبة والمسؤولية التاريخية لروّاد عمليات السلام في العالم كخط دفاع مستدام في مواجهة ما يُرسَم للمنطقة على يد قوى الحداثة والهيمنة الرأسمالية، وفي لعب دور سبّاق في تجاوز تحدّياتها وتمثّل إرادة ومصالح شعوبها؛ ومن هنا تأتي أهمية الأفكار الواردة في بيان المفكّر عبد الله أوجلان، وسيكون له دور أساسيّ في بناء الشرق الأوسط الجديد وفق قيم الديمقراطية والتعاضد والسلام المُستدام بعد وضع الأسس السياسية والقانونية للعب هذا الدور.
إنَّ ترك شعوب ومكوّنات الشرق الأوسط لحياة الجهالة طامّة كبرى؛ فبيان أوجلان، لا يقدّم تنازلات عن حرية الكرد في إطار الحقوق والمبادئ الديمقراطية المتعارفة، ولن يكون محتواه هي النهاية، بل بداية لمرحلة جديدة ستحمل عنواناً واضحاً للنضال القانوني والحقوقي وتتلاصق مع ممارسة السياسة الديمقراطية كإحدى أرقى أشكال الدفاع المشروع للإنسان عن كينونته ووجوده.
الحكمة الأساسية في هذا البيان تكمن في أنّه يجب ألّا يُقمَع كل مَن يمارس السياسة خارج نطاق وعقلية الدولة، بل يجب تنظيم النشاطات والفعاليات الثقافية والسياسية والاجتماعية دون اعتراض، ويكفل هذا الحق قانونياً ودستورياً؛ وهذه ستُعَدُّ الخاصية الدفاعية الأبرز في هذه المرحلة وستُحَلُّ القضية الكردية بموجبها، ويفتح الطريق والسبيل نحو تحقيق السلام وبناء المجتمع الديمقراطي في كردستان وتركيا والمنطقة كسلسلة متكاملة مستقبلاً.
ملاحظة: قد يلاحظ القارئ تكراراً في بعض الجمل، فهي مقصودة، وتأتي في سياق القراءة والسرد التحليلي السوسيولوجي، وهي ضرورة ماسّة لهذه القراءة الموسّعة التي تختلف بعض الشيء عن غيرها، لذا؛ فقد اقتضى التنويه.
المصادر:
- بيان السلام والمجتمع الديمقراطي25-2-2025
- موقع علم الاجتماع مباشر
- موقع قناة الحرة الامريكية27-2-2025