نحو أفقٍ عالميٍّ للفكر الأوجلاني
أحمد بيرهات

قراءة تحليلية – استشرافية لبيان حزب العمال الكردستاني وسياقات ما بعد الكفاح المسلّح
المقدّمة التحليلية:
يمثّل المؤتمر الثاني عشر لحزب العمال الكردستاني لحظة مفصلية في تاريخ الحركة الكردية المعاصرة؛ إذ لم يكن مجرّد اجتماع تنظيمي عادي، بل جاء ليعلن تحوّلاً جوهرياً في استراتيجية أحد أبرز الحركات الثورية في الشرق الأوسط.
وفي ظل بيان الحزب، والقاضي بإنهاء الكفاح المسلّح تزامناً مع بيان عبد الله أوجلان المؤرَّخ في 27 شباط 2025، يتبدّى بوضوح أنّ ما نشهده ليس مجرّد تحوّل تكتيكي ظرفيّ، وإنّما إعادة تموضع استراتيجي يعكس نضجاً فكرياً وسياسياً، وانعطافاً فلسفياً نحو بناء نموذج نضالي جديد قائم على السلمية واللامركزية الديمقراطية والمجتمع.
وفي هذا السياق؛ يكتسب هذا البحث أهميته من كونه يسعى لتفسير هذا التحوّل ضمن شبكة من التفاعلات المتشابكة، بين الفكر الأوجلاني والواقع السياسي، وبين التعبيرات الرمزية للقيادة وردود الفعل الشعبية، وبين التحدّيات المحلّية والإقليمية والدولية، والتي تفرض نفسها على الحراك الكردي في لحظته الراهنة.
كما يستند البحث إلى تحليل عميق لسوسيولوجيا القرار السياسي، واستقراء فلسفة “الأمّة الديمقراطية” بوصفها إطاراً بديلاً لمفهوم الدولة القومية؛ وذلك في محاولة للإجابة عن تساؤلات مصيرية تخصّ مستقبل النظرية الأوجلانية، ومصير القضية الكردية، واحتمالات ولادة تحالفات تحرّرية إقليمية وعالمية في المستقبل.
إشكالية البحث:
هل يشكّل المؤتمر الثاني عشر لحزب العمال الكردستاني قطيعة استراتيجية مع مرحلة الكفاح المسلّح، وانعطافاً فعلياً نحو نموذج تحرّري جديد مستوحىً من فلسفة الأمّة الديمقراطية؟ وكيف يمكن فهم هذا التحوّل في ضوء التعبيرات الرمزية للقيادة، والمواقف الشعبية، والسياق الإقليمي والدولي المحيط؟ وما مدى صوابية القرار وتداعياته على المشروع الأوجلاني والمنطقة؟
الأسئلة المطروحة:
- ما هي الدلالات الفكرية والسياسية لإعلان حزب العمال الكردستاني لإنهاء الكفاح المسلّح؟
- كيف يتكامل هذا الإعلان مع بيان عبد الله أوجلان الصادر في 27 شباط 2025؟
- ما هي ردود الفعل الشعبية في أوساط المجتمع الكردي في الداخل والخارج تجاه هذا التحوّل؟
- كيف يمكن تحليل تعبيرات قادة الحزب خلال المؤتمر من الناحية الرمزية والنفسية؟
- ما هي التأثيرات الإقليمية والدولية المباشرة وغير المباشرة لهذا القرار، خاصة على الإدارة الذاتية الديمقراطية لشمال وشرق سوريا؟
- هل يمكن اعتبار هذا التحوّل بداية لنمط نضالي جديد داخل الحركة التحرّرية الكردستانية؟
- كيف ينعكس هذا التحوّل على مستقبل الفكر الأوجلاني، وعلى مسار بناء الأمّة الديمقراطية؟
تعاريف مبسّطة لبعض المصطلحات الأساسية في البحث:
الكفاح المسلّح: يُعرَّف الكفاح المسلّح على الشكل التالي:
هو أسلوب نضالي يتبنّاه (PKK) منذ عام 1984، بعد أن سُدّ الباب أمام نشاطه الفكري والسياسي، بهدف تحقيق مطالب الشعب الكردي وحلّ قضيته العادلة، أي أنه اضطُرّ لاستخدام أداة العنف لمواجهة الدولة التركية والدفاع عن شعبه، ولكسر سياسة الإنكار والإمحاء بحق الشعب الكردي، مارس الحزب الكفاح المسلّح إلى جانب العمل السياسي والفكري.
التحوّل الاستراتيجي: المعنى الأوضح لهذا المصطلح السياسي هو:
الانتقال العميق في الرؤية التنظيمية والفكرية والسياسية، وأحيانا يتمّ من خلال التحوّل من العمل المسلّح إلى العمل السياسي والمجتمعي كرؤية واستراتيجية واقعية وثورية.
الأمّة الديمقراطية: مصطلح قدّمه قائد حزب العمال الكردستاني في بارديغماه (نموذجه) والمرتكز الأول للعصرانية الديمقراطية، وتعدّ بديلاً عن الدولة القومية، وتقوم على التعدّدية المختلفة واللامركزية الديمقراطية والعدالة الاقتصادية والمجتمعية والصناعة الإيكولوجية (البيئية) والتحرّر الجنسوي، ويُعرّف أوجلان هذه الأمّة في مجلده الخامس من “مانيفستو الحضارة الديمقراطية” في صفحة (438) على هذا النحو: “الأمّة معنية بالذهنية والعقيدة وهي مجموع الأناس الذين يتشاطرون عالماً ذهنياً مشتركاً، وما يضفي صبغته على الأمّة الديمقراطية هو وعي الحرية والتعاضد “.(1)
المجتمع الأخلاقي – السياسي: مفردتان متلازمتان، وتشكّلان أساس وجوهر أطروحة المفكّر عبد الله أوجلان، والمجتمع الأخلاقي – السياسي هو أحد العناصر الثلاث الأساسية للعصرانية الديمقراطية، كما أورده عبد الله أوجلان في مجلّده الثالث، وهي موجودة منذ مرحلة ما قبل المدنية أو المجتمعات المناهضة لها، وهي الحالة الوجودية للطبيعة الاجتماعية؛ حيث يسعى من خلال طرحه هذا إلى تجاوز نموذج الدولة القومية من خلال بناء مجتمع منظّم وتأسيس شبكة قيمية قائمة على المشاركة والمساواة، حيث يحدّد أوجلان المهام السياسية لهذا المجتمع على الشكل التالي:
“إنّ الطبيعة الاجتماعية تكوين ووجود أخلاقي وسياسي أساساً، وما دامت المجتمعات مستمرّة بوجودها، فماهيّتها الأخلاقية والسياسية مستمرّة، والمجتمعات المفتقدة لماهيتها الأخلاقية والسياسية محكوم عليها بالتبعثر والتفسّخ والفناء” (2)
القيادة الرمزية: المقصود بها الكوادر القيادية للحزب أو الحركة التي تعكس التوجّهات الكبرى للحزب والتغيرات التي يحتاج إليها للاستمرارية؛ وبذلك تشكّل مرآة لخطّه السياسي والفكري وإرثه المُستدام.
الشرعية النضالية: تعني، بإحدى تجلّياتها، مدى تقبّل قواعد وجماهير الحزب ومجتمعه للتحوّلات الفكرية والاستراتيجية وفق التاريخ النضالي الطويل للحزب على أسس رصينة.
مدخل البحث:
تحتلّ التحوّلات الأخيرة في مسيرة حزب العمال الكردستاني مساحة مركزية في النقاشات الفكرية والسياسية الكردية والشرق أوسطية والعالمية.
فالانتقال المعلَن من الكفاح المسلّح إلى النضال الديمقراطي لا يقتصر على البعد العملي، بل يحمل في طياته تأويلاً جديداً للهوية الثورية، ولمستقبل الحركة الكردستانية، ولفكر عبد الله أوجلان ذاته.
إنّ ربط هذا التحوّل بالفكر الأوجلاني، وبخاصة فلسفة الأمّة الديمقراطية والمجتمع الديمقراطي (الأخلاقي – السياسي)، يستدعي قراءة مركّبة تأخذ بعين الاعتبار تفاعل الرمزي والشعبي، النظري والعملي، المحلّي والإقليمي والعالمي.
كما أنّ تأمّل تعبيرات القيادة في صور المؤتمر، ورصد المواقف الشعبية، وتفكيك السياقات السياسية الإقليمية، يكشف عن عمق سياق التحوّل الفكري والنضالي، والإمكان في تحقيق ذلك، والمخاوف التي ترافقه في آن معًا.
ولا يمكن فهم هذا التحوّل دون الرجوع إلى التجارب العالمية التي خاضت تحوّلات مشابهة (الزاباتيستا، الشين فين، إيتا، الفارك…)، والتي اختارت تجاوز العنف نحو مشاريع سياسية بديلة تُبقي على الجوهر التحرّري وتُعيد تشكيل الأدوات (سيكون لنا بحث كامل حولها لاحقاً).
الخلفية التاريخية والفكرية للتحوّل في حزب العمال الكردستاني
يمثّل التحوّل الأخير في مسيرة حزب العمال الكردستاني (PKK) لحظة فاصلة، ليس فقط في تاريخه النضالي، بل في مسار الحركة التحرّرية الكردية والشرق أوسطية عموماً.
إنّ قرار إنهاء الكفاح المسلّح، الذي أُعلن في المؤتمر الثاني عشر للحزب، والمنعقد في أيار 2025، لم يكن خطوة معزولة أو انعطافاً طارئاً، بل تتويجاً لمسار طويل من المراجعات الفكرية والسياسية، بدأ فعلياً منذ عام 1993 وتعمّق بعد اختطاف واعتقال عبد الله أوجلان عام 1999، وامتدّ حتى تبلور المشروع الأوجلاني كفلسفة متكاملة للحلّ الديمقراطي في مجلّداته الخمس عامَي 2009-2010.
تأسّس حزب العمال الكردستاني في 27-11-1978، في ظل تصاعد القمع القومي ضدّ الشعب الكردي في تركيا، وتزامن ظهوره مع موجة اليسار الراديكالي في الشرق الأوسط.
تبنّى الحزب، منذ بداياته، مزيجاً من الاشتراكية الثورية والنزعة التحرّرية القومية، متأثّرًا بالماركسية – اللينينية – الماوية، واعتبر أنّ تحرّر كردستان لا ينفصل عن الثورة الاشتراكية في تركيا والمنطقة.
ومنذ عام 1984، شرع الحزب في الإعلان عن الكفاح المسلّح، في ما سمّاه الحزب بـ”قفزة 15 آب”، اعتماداً على شنّ حرب العصابات (الأنصار) ضدّ الدولة التركية، وعلى تمركز ميداني في جبال كردستان، والقيام بالعمليات العسكرية في كردستان وتركيا، وإنشاء معسكرات تدريب في مناطق جبال قنديل في إقليم كردستان، غير أنّ التسعينيات من القرن المنصرم شكّلت نقطة تحوّل قاسية؛ إذ تراكمت الضغوط الدولية، وأُدرِج الحزب على قوائم “الإرهاب”، وتزامن ذلك مع اختطاف واعتقال قائد الحزب عبد الله أوجلان؛ الأمر الذي شكّل صدمة كبرى، وحدث تحوّل كبير استلزم مراجعة جذرية في الخطاب والمنهج.
ومن داخل معتقله في إيمرالي، بدأ أوجلان بتفكيك الأسس الفكرية التي نشأ عليها الحزب، موجِّها نقداً صارماً للمركزية القومية، وللنموذج الدولتي السلطوي، مقترِحاً بديلاً جذرياً يتمثّل في مشروع “الأمّة الديمقراطية”، وهو منظور يقوم على بناء مجتمع أخلاقي – سياسي يُدار ذاتياً عبر الكومونات والمجالس، خارج منطق الدولة القومية، وبعيداً عن منطق العنف الثوري التقليدي، وطرح مبدأ الدفاع المشروع بدلاً من حرب طويلة الأمد.
تدريجياً، لم تعد الساحة الرئيسية للنضال هي الجبل والبندقية، بل المجتمع ذاته، بصفته حاملًا للتحوّل وهدفاً له، وعبر كتابات أوجلان، خاصةً في مجلّداته الخمس “مانيفستو الحضارة الديمقراطية”، أصبح النقد من خلالها موجَّهاً لا إلى النظام التركي وحده، بل إلى مجمل بنية الحداثة الرأسمالية، بوصفها منتجة للاستبداد، ومفرّغة للمعنى الاجتماعي من السياسة.
وانطلاقاً من هذه الفلسفة؛ بدأ الحزب ينهض بمراجعة شاملة طالت التنظيم، والأساليب، والعلاقات مع المجتمع، وأعاد إنتاج نفسه كحركة اجتماعية متعدّدة المستويات، تعتمد النضال السياسي المدني – ما سمّاه أوجلان “الساحة الثالثة” – وتمكين المرأة، والارتكاز على البنية المجتمعية التاريخية للشرق الأوسط.
وقد تبلورت هذه المراجعات بشكل أوضح بعد 2005، حين بدأت منظومة المجتمع الكردستاني (KCK) بالتشكّل، وطُبّقت أفكاره في تجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال وشرق سوريا في عام 2014، وما بعده، وبدأت تأخذ شكلاً عملياً يعكس رؤية أوجلان في فلسفته “أخوّة الشعوب والعيش المشترك”.
وهنا؛ لم يعد السلاح الوسيلة الوحيدة أو المركزية، بل أصبح التنظيم الذاتي، والتعليم، وبناء مؤسسات المجتمع المدني أدواتٍ نضاليةً فاعلة، وتجلّى ذلك في محاولات الحزب المتكرّرة لإعلان وقف إطلاق النار، وطرح مبادرات سلام بين عامَي 2008-2009 و2013 و2015، وإن فشلت بسبب تعنّت الدولة التركية.
في هذا السياق؛ جاء المؤتمر الثاني عشر للحزب، مُعلِناً نهاية الكفاح المسلّح بوصفه الخيار الاستراتيجي المركزي، ومؤكّداً الدخول في “مرحلة جديدة من النضال المجتمعي الديمقراطي”، حيث جاء في البيان: “قرّر المؤتمر حلّ الهيكلية التنظيمية للحزب وإنهاء أسلوب النضال المسلّح، بإدارة وتنفيذ هذه العملية من قبل القائد أوجلان، وبالتالي إنهاء الأعمال التي تُجرى باسم الحزب”. (3)
فالبيان الصادر عن المؤتمر لم يكن مجرّد وثيقة سياسية، بل عُدّ بمثابة إعلان مانيفستو جديد، يُعيد تعريف دور الحزب، وعلاقته بالمجتمع، ومفاهيم الدولة والتحرّر.
تحليل معاني بيان حزب العمال الكردستاني:
بالطبع؛ عند محاولتنا تحليل البيان الختامي للمؤتمر الثاني عشر لحزب العمال الكردستاني (PKK)، فإنّ الأمر يتطلّب قراءة متمعّنة ومتعدّدة الأبعاد تأخذ في الاعتبار السياقات الزمنية والمكانية، والفاعلين الأساسيين في مقاصده، والخلفيات الفكرية والسياسية، والدلالات العقائدية والدعائية، بالإضافة إلى اختبار معاني البيان على أرضية الواقعية السياسية الحالية وما يعيشه العالم والمنطقة بكل تفاصيلها.
أولاً: عاملا الزمان والمكان:
الزمان: عُقد المؤتمر الثاني عشر لحزب العمال الكردستاني بين 5 – 7 أيار 2025، في سياق إقليمي ودولي معقّد يتمثّل في:
-استمرار الجيش التركي في شنّ العمليات العسكرية ضدّ قوات حزب العمال الكردستاني في جبال كردستان، وفرض الحصار من قبل قوات الحزب الديمقراطي الكردستاني (PDK) على “مناطق الدفاع المشروع” فقد ذكر في البيان ما يلي:
“عُقد مؤتمرنا في ظل ظروف صعبة، حيث تستمر الاشتباكات، والهجمات الجوية والبرية، والحصار على مناطقنا، وتستمر العقوبات التي يفرضها الحزب الديمقراطي الكردستاني (PDK)، لكنّه أُجري بأمان”. (4)
-استمرار عزلة أوجلان في إمرالي منذ سنوات دون تواصل مباشر معه (حصلت بعض اللقاءات بعد نداء بخجلي في شهر تشرين الأول عام 2024).
-تزايد التأييد الدولي الفعلي للقضية الكردية (تبيّن بشكل واضح من خلال المواقف والتصريحات التي جاءت بعد بيان 27 شباط لأوجلان).
-تغيّرات في المشهد التركي الداخلي مع اقتراب احتمالات إعادة ترتيب المشهد السياسي في الداخل، بالتزامن مع التطوّرات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط.
المكان: يشير البيان إلى عقد المؤتمر في “منطقتَين مختلفتَين بشكل متزامن” (5)
لم يُذكَر المكان بدقّة؛ وهذا يعني أنّ هناك:
إجراء أمني صارم وسرّية تامّة في عقد هذا المؤتمر استجابة لنداء قائد الحزب؛ بسبب استمرار القصف التركي الدائم لمناطق تواجد المقاتلين (الكريلا)، كون تركيا تستخدم كل التقنية العسكرية المتطوّرة لاستهداف قادة ومقاتلي الحزب؛ ما يعكس المستوى الاحترازي المتقدّم بفعل التجربة الطويلة لصراع الحزب مع الدولة التركية.
مَن هم المعنيّون الأساسيون في البيان؟
1.القائد عبد الله أوجلان: يُقدّم في البيان كشخصية كاريزمية وقائد تاريخي، رغم احتجازه منذ 26 عاماً، ويُبرز كمحور مركزي في إدارة المرحلة “إدارة وتنفيذ هذه العملية من قبل القائد أوجلان”. (6)
ويُنظَر إليه كقائد استراتيجي و”مُنظِّر للمرحلة الجديدة”؛ ممّا يمنح البيان طابعاً عقائدياً خفيفاً، لكنّه متماسك، يُحافظ على الرابط العضوي بين الفكرة والمصدر. ومن هنا يمكن فهم تأكيد البيان على أنّ تنفيذ الانتقال سيتمّ بإشراف القائد (أوجلان)، لا من خلال مراكز القرار العسكرية التقليدية؛ وهذا يعني التزاماً صارماً بتوجيهات أوجلان (الانضباط والتعبير العملي والثقة الكبيرة بين مؤسس الحزب وقادته ومقاتليه، ويُعَدّ هذا الاستنتاج رسالة ذات معنى عميق).
2.حزب العمال الكردستاني: يُعلن الحزب حلّ نفسه ككيان تنظيمي مسلّح بعد 47 عاماً من العمل النضالي الموسّع والمتعدّد، ويتحوّل إلى مرحلة جديدة من النضال الديمقراطي، وإن لم يُوضّح في البيان تفاصيلها، حيث جاء: “قرّر المؤتمر حلّ الهيكلية التنظيمية للحزب وإنهاء أسلوب النضال المسلّح”. (7)
3.الشعب الكردي: يحمل مسؤولية استلام راية المرحلة المقبلة بعد حلّ الحزب لنفسه عبر التنظيم الذاتي الفاعل، وبناء المجتمع الديمقراطي كتطبيق فعليّ لمانيفستو “السلام والمجتمع الديمقراطي” الذي تمّت قراءته في 27 شباط 2025: “نضال الحزب قد حطّم سياسات الإنكار والإبادة ضدّ شعبنا، وأوصل قضية الكرد إلى نقطة الحلّ عبر السياسة الديمقراطية، وبهذا الشكل أكمل الحزب مهمّته التاريخية”. (8)
ووفق البيان؛ لم يعد الشعب فقط متلقّياً للتوجيه، بل حاملاً للفكرة، ومطلوباً منه أن يُفعّل قدراته الذاتية في ميادين الثقافة، واللغة، والتنظيم الاقتصادي، والدفاع، والسياسة.
4.المرأة والشباب وبُعد الدفاع: القارئ لمؤلّفات عبد الله أوجلان والمطّلع بعمق على فكره وبراديغماه يدرك جيّداً أنّه يعتمد بشكل أساسي على الطاقة المكبوتة والذوات الفاعلة للمرأة والشبيبة على السواء، وتطلّعاتهما، وسيكون لهم دور محوري في المرحلة الجديدة، ضمن رؤية تحرّرية مجتمعية كنواة جوهرية لمستقبل المشروع المطروح لدى أوجلان، فقد جاء في البيان: “من الضروري أن يشكّل شعبنا، بقيادة النساء والشباب، منظّماته الذاتية في كل مجالات الحياة، وأن ينظّم نفسه على أساس الاكتفاء الذاتي بلغته، وهويته، وثقافته، وأن يصبح قادراً على الدفاع عن نفسه ضدّ الهجمات، وأن يبني المجتمع الديمقراطي الجماعي بروح التعبئة”. (9)
5.الأحزاب السياسية الكردية والتركية، والحركات اليسارية والجهات الدولية: يدعو البيان الأحزاب السياسية الكردية والتركية، والحركات اليسارية، والجهات الدولية لتحمّل مسؤولياتها تجاه عملية السلام؛ حيث ورد فيه: “بهذا الأساس، نؤمن أنّ الأحزاب السياسية الكردية، والمنظمات الديمقراطية، وروّاد الرأي سيفون بمسؤولياتهم في تطوير الديمقراطية الكردية وتحقيق الأمّة الديمقراطية الكردية”(10)
كل هذه النقاط المذكورة تؤكّد أنّ هناك مهامّاً جساماً في المرحلة المقبلة مطلوبة من كل الجهات؛ من خلال بناء جبهات وأطر فكرية وسياسية واجتماعية، والعمل سويّاً في المرحلة المقبلة بروح الأهداف والمصالح المجتمعية المشتركة التي يبتغيها البيان.
الأسس الفكرية للبيان
يعكس البيان تحوّلاً جذرياً في الرؤية الفكرية والسياسية للحزب، من الاشتراكية الواقعية (المشيّدة)، إلى تبنّي اشتراكية المجتمع الديمقراطي، والتي تشكّل جوهر نظرية العصرانية الديمقراطية، والتي بدورها تشكّل حداثة الأمّة الديمقراطية كما تناوله أوجلان في مجلّده الخامس، والتأكيد على أنّ الاشتراكية الواقعية – بما تحمله من طابع حزبي مركزي وعقيدة ثورية تقليدية – قد انتحرت في الاتحاد السوفيتي، كما صرّح به قائد الثورة الكوبية إبّان انهيار الاتحاد السوفيتي، وأنّها لم تعد مُجدية وفشلت في تجاربها في بلدان متعدّدة؛ حيث جاء في البيان:
“تأثّر الحزب في نشأته بالاشتراكية الواقعية وتبنّى مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، وخاض نضالاً مشروعاً وعادلاً، بناءً على استراتيجية النضال المسلّح، تشكّل الحزب في ظل ظروف سيطر فيها إنكار الكرد، وسياسات الإبادة، والإبادة الجماعية، والتطهير الثقافي”. (11)
وردّت الدولة التركية على نضال الكرد وحزب العمال الكردستاني هذا، بإخلاء وإحراق آلاف القرى، وقتل الآلاف بطرق مجهولة الفاعل (فاعل مجهول)، واعتقِل وشُرِّد ملايين الكرد، وتعرّض عشرات الآلاف للتعذيب وأُلقي بهم في السجون.
توصّل الحزب إلى قناعة بضرورة مواكبة المرحلة كصيرورة تاريخية، وحقيقة جدلية بكل المقاييس، وأنّ البديل يكمن في نموذج “المجتمع الديمقراطي، البيئي، المتحرّر جنسياً”. (12)
نقد الدولة القومية:
يظهر في البيان بكل وضوح أنّ جذور الإشكاليات والقضايا تكمن في المركزية القومية التي نشأت من معاهدة لوزان ودستور 1924، ويجب تخطّيها من خلال بناء المجتمع الديمقراطي؛ حيث جاء في البيان:
“استند القائد أوجلان إلى ما قبل معاهدة لوزان ودستور 1924، اللذَين تسبّبا في إشكالية العلاقات الكردية – التركية، وتبنّى منظور الوطن المشترك” (13)
الأمّة الديمقراطية:
يطرح البيان “الأمّة الديمقراطية” كبديل مفهومي لصراعات الهوية والدولة المركزية، عبر إطار مجتمعي تشاركي (وهي نظرية طُرِحت منذ أكثر من عشرين سنة)، حيث ورد في البيان:
“شعوبنا الفقيرة والعاملة، وجميع الطوائف الدينية، والنساء والشباب، والعمال والفلاحون، وجميع القطاعات المستبعَدة من السلطة، ستدافع عن حقوقها في عملية السلام وبناء المجتمع الديمقراطي، وستطوّر حياة مشتركة في بيئة ديمقراطية عادلة”. (14)
الأسس السياسية للبيان
حلّ الحزب:
قرار حلّ الهيكلية التنظيمية لحزب العمال الكردستاني (PKK) يعكس نقطتين هامّتين:
1- الإعلان عن نهاية حقبة “الحرب طويلة الأمد” كاستراتيجية، والاحتفاظ بمبدأ وبُعد الدفاع المشروع.
2- محاولة جريئة من الحزب لإعادة التموضع كفاعل سياسي مجتمعي غير عسكري في الساحة التركية – الكردستانية، وفي الشرق الأوسط والعالم، مع التمركز وفق الخاصية الكونية للحماية الذاتية والدفاع المشروع.
فالبـيان يُعَدُّ مؤشِّراً بالغ الأهمية للتحوّل نحو العمل السياسي الديمقراطي، وهذا يعكس فهماً جديداً لدى الحزب، بأنّ الحرب قد استنزفت أدواتها في الحل، وأنّ الوقت قد حان لبناء السياسة في مجال المجتمع الديمقراطي، وإعادة صياغة العلاقة الكردية – التركية.
ويُقترَح في البيان العودة إلى نموذج “الوطن المشترك” والمواطنة المتساوية في إطار جمهورية ديمقراطية.
الأسس العقائدية للبيان
تظهر في ثلاث نقاط رئيسية:
- يقدّم البيان شخصية القائد أوجلان كمحور روحي وتاريخي، مع التأكيد الدائم والمستمرّ على دوره؛ ما يُضفي طابعاً شبه عقائدي على البيان (وهو ما يتميّز به حزب العمال الكردستاني بشكل أكثر وضوحاً من الحركات العقائدية الأخرى).
- يشير البيان إلى مفهوم الشهادة عند الحزب كأعلى درجات الالتزام، من خلال الإشارة إلى الشهداء الكبار (علي حيدر كايتان ورضا ألتون)؛ ما يؤكّد استمرار رمزية الفداء والتضحية حتى في الانتقال إلى السلم، وهي رسالة التقطها الكثيرون.
- التنظيم الذاتي كحزب يُستبدل بمفهوم “التنظيم المجتمعي”، أي أنّ العقيدة لم تُلغَ بشكل نهائي (كما حاول بعضهم الترويج لذلك)، بل أُعِيد توجيهها.
الخطاب السياسي للبيان
استخدِم خلال البيان لغة رمزية قوية من خلال تدوين مصطلحات ومفاهيم مثل: “الحرية، المجتمع الديمقراطي، القيادة، الشهادة، الولاء، الأمّة الديمقراطية”(15) جميعها مفاهيم تعبّئ المشاعر وتعيد إنتاج الهوية النضالية.
كما اعتمد البيان على التاريخ بوصفه دليل الشرعية عبر تقديم تاريخ الحزب والنضال الكردي كمرجعية مشروعة لكلّ التحوّلات.
وبالرغم من التحوّل السلمي، إلّا أنّه لم يغب عن الخطاب (“الدولة القومية، سياسات الإنكار، المؤامرة الدولية”) (16)؛ وهو ما يُبرّر أهمية الحذر والتنظيم الذاتي لتجاوز السياسات التي تستهدف التحوّل النضالي الجديد.
الواقعية السياسية في البيان
القرار بالانطلاقة الجديدة، كما أظهره البيان، يعكس قراءة استراتيجية واقعية ومنطقية للتنافس والصراع المحتدِم للمشاريع والأجندات المتعدّدة والمختلفة للقوى الكبرى والمهيمنة في العالم عامةً والشرق الأوسط تحديداً؛ وهذا يعني بالضرورة أهمية تواجد توازن قوىً جديدة بعد كل المقدّمات التي جرت قبل وبعد حرب حركة حماس وحزب الله والحوثيين مع إسرائيل، والانسدادات الصلبة في طريق حلّ القضية الكردية.
هذه عوامل دفعت بقيادة الحزب إلى مراجعة الجذور، والبداية انطلقت بمانيفستو أوجلان الذي قُرِء في 27-2-2025، وبالرغم من أنّ بعضهم اعتبره مخرجاً تكتيكياً لإعادة الانتشار السياسي، وربّما مدخلاً لصيغة تفاوضية غير مباشرة، ألّا أنّ آخرين رأوا فيها “الواقعية الثورية” بعينها، كما أشار البيان إلى أنّ النضال المسلّح وحده لم يعد قابلاً للاستمرار، وأنّ السلمية شرط لبقاء واستمرار الفكرة.
الاستنتاج لكل ما حلّلناه في تفاصيل بيان الحزب هو أنّ:
– التنظيم باقٍ ولكن بأسماء جديدة.
– رغم حلّ الحزب، فإنّ البيان لا يتحدّث عن حلّ “الحركة”، بل إعادة إنتاجها عبر المجتمع.
معاني البيان وتداعياته
يمكن اعتبار البيان بمثابة إعلان نهاية مرحلة وفتح صفحة جديدة – من مرحلة “الحزب – الحرب” إلى “المجتمعية – السياسة الديمقراطية”، وتجاوز الكفاح العسكري كوسيلة مركزية لتحقيق الهدف، والقيام بتحوّل فكري – سياسي أوسع، ومواكبة جدلية الصيرورة التاريخية والبحث من خلالها عن حلّ عادل للقضية الكردية، وحلّ شامل للقضايا العالقة في المنطقة والعالم.
يُقدّم البيان كتحقيق لمهمة تاريخية والانتقال إلى أخرى، ويُعَدّ البيان في هذا التوقيت محاولة لصياغة سردية انتصار لا هزيمة، للخروج من المشهد العسكري إلى نضال جديد أكثر عمقاً واتّساعاً، وخلق إطار شرعي جديد للفاعلية الكردية داخل تركيا (الاندماج مع الدولة) باعتماد خطاب “الوطن المشترك”، ممّا يُهيِّئ الأرضية لصيغ جديدة للتفاوض السياسي في المراحلّ القادمة بهدف الوصول لحلول سلمية مستدامة.
ولا ننسى في النهاية إضفاء الطابع الأممي على المسار الجديد، عبر دعوة القوى الدولية واليسار العالمي للانخراط في نموذج “الحداثة الديمقراطية”، ومن حضور عسكري علنيّ إلى فعل سياسي – اجتماعي موزّع ولامركزيّ.
فمن حيث المضمون، يشكّل البيان إعادة تعريف جذرية لماهية النضال.
فقد تم حلّ الهيكلية التنظيمية للحزب، ولكن دون حلّ الحركة، أو التخلّي عن الفكرة المركزية، بل جرى استبدال الهيكل العسكري بمفهوم “التنظيم المجتمعي”، حيث لا تُلغى العقيدة، وإنّما يُعاد توجيهها لتخدم مشروع الأمّة الديمقراطية.
فهذا المفهوم لا يُنظَر إلى الحزب بوصفه أداة لتنفيذ الخطط المركزية، بل كذات فاعلة، قادرة على بناء مجتمع متحرّر، متعدّد، مكتفٍ بذاته، ومدافع عن كيانه بشكل جَماعي.
تأثيرات البيان الختامي للمؤتمر الثاني عشر لحزب العمال الكردستاني (PKK)
يُعَدُّ البيان الختامي للمؤتمر الثاني عشر لحزب العمال الكردستاني (PKK) في أيار 2025 نقطة تحوّل استراتيجية في تاريخ الحركة الكردية المعاصرة؛ حيث أعلن الحزب حلّ نفسه ونزع سلاحه، استجابةً لدعوة قائده عبد الله أوجلان، كما مرّ معنا سابقاً، وهذا التحوّل يعكس انتقالاً من الكفاح المسلّح إلى النضال السياسي والمجتمعي، ويؤثّر على مختلف الساحات الكردية والإقليمية والدولية.
ردود الفعل الشعبية
تباينت المواقف الشعبية من الإعلان التاريخي؛ فبينما عبّر كثيرون من مؤيّدي الحزب التقليديّين عن مشاعر الحزن والتساؤل، أبدت قطاعات واسعة من الشباب والنساء تفهّماً ودعماً لهذا التحوّل، ومع ذلك؛ هناك إدراك واسع بأنّ “الحزب لا يتخلّى عن النضال، بل يعيد تعريفه”.
يُنظَر إلى القرار كخطوة مسؤولة تعكس وعياً بموازين القوى وتجنّباً للمزيد من الدمار، وذلك رغم القلق المشروع من فقدان عنصر الردع الذي مثّله الحزب تاريخياً.
تأثيرات قرارات مؤتمر الحزب على الساحات المعنية
- الداخل التركي – الكردستاني والقوى الكردية فيه:
-فرصة للأحزاب الكردية السياسية: يمنح حلّ الحزب فرصةً للأحزاب الكردية السياسية ومنظمات المجتمع المدني في تركيا، مثل حزب “اليسار الأخضر – حزب المساواة وديمقراطية الشعوب” (DEM PARTI)، لتأكيد طابعها السياسي – المدني والقضاء النهائي على فكرة الارتباط التنظيمي مع حزب العمال الكردستاني (PKK)، كما يُتيح لها فرصةً للتموضع السياسي وتوسيع قاعدتها الجماهيرية نحو جمهور كردي – تركي معارض للحرب، ودعم منظّمات تدعو إلى السلام.
– ردّ فعل الحاضنة التقليدية: تبدو استجابة هذه الفئة مشوبةً بالقلق؛ إذ نشأت على أدبيات الكفاح المسلّح والارتباط العضوي بالحزب ورمزية الشهداء.
ربّما يشعر بعضهم أنّ “التخلّي عن الحزب” يعني التخلّي عن رمزية النضال، لكنّهم قد يتفهّمون التحوّل كضرورة تاريخية بفعل الواقع الإقليمي الحالي.
– جيل الشباب والتكنولوجيا: لُوحظ تقبّل واسع لقرارات المؤتمر، بل قُوبل بترحيب لدى الكثير من الشباب الكرد في المدن التركية بشكل واسع، والذين يطمحون إلى الحراك المدني والديمقراطي أكثر من العمل العسكري، خاصةً بعد سنوات من القمع الممارَس ضدَّ الكرد، وقد يُفهَم البيان لديهم كخطوة نحو السياسة والمواطنة، ممّا يمنحهم هامشاً أكبر للانخراط في العمل العام دون وصمة “الارتباط بالحزب المحظور”.
– تقوية الحجج السياسية: طالما استخدمت الدولة التركية اتّهام ارتباط حزب (DEM PARTI) بـ (PKK) كذريعة للقمع، فإنّ البيان يُعَدّ وثيقةً سياسيةً تتيح لهذه الأحزاب المطالبة بإعادة الحوار حول حلّ القضية الكردية، بحجّة أنّ “التهديد قد زال”.
– تحدّيات داخل الأحزاب الكردية: ستواجه الأحزاب الكردية المدنية تحدياتٍ فكريةً واستراتيجيةً في تحديد موقفها من الفكر الأوجلاني بصيغته الجديدة، وقد ينشأ صراع خَفِيّ بين تيارات أكثر “واقعية سياسية” وتيارات “أوجلانية ملتزمة” وبشكل نسبيّ.
-ردّ فعل الدولة التركية: قد تُفسّر تركيا البيان كـ “إعلان فشل” للحزب، وقد تستغلّه السلطة للمطالبة بمزيد من التنازلات دون تقديم مقابل سياسي، وهذا يتطلّب حِنكةً من القيادات الكردية لتحويل البيان إلى رافعة ضغط سياسي خارجي.
- التأثير على إقليم كردستان – العراق
في إقليم كردستان العراق، كان استقبال البيان متبايناً:
فالمؤيّدون لأفكار المدرسة الأوجلانية، رأوا في البيان استمراراً للمشروع المجتمعي المناهض للبيروقراطية والعشائرية، من جهة أخرى حاول بعض مؤيّدي الحزب الديمقراطي الكردستاني (PDK) إظهار البيان كدليل على “فشل” مشروع الحزب، لكن التصريحات الإيجابية لقيادات الإقليم خفّفت من هذه الآراء.
- التأثير في المهجر والشتات الكردي
في أوروبا، احتفت النخب الكردية والأممية المؤمنة بفكرة “الأمّة الديمقراطية” بالبيان، معتبرةً إيّاه تحوّلاً ناضجاً من “زمن البندقية” إلى “زمن الفكرة”، كما أثار البيان حنيناً لدى المهاجرين القدامى المرتبطين بالحزب، الذين قد يتمكّنون الآن من العودة إلى الوطن وممارسة نشاطهم السياسي والاجتماعي دون عوائق.
- التأثير على الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال وشرق سوريا
مثّلت تجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال وشرق سوريا أحد أبرز النماذج التطبيقية لتحوّل حزب العمال الكردستاني (PKK) من الكفاح المسلّح إلى البناء المجتمعي، وتحديداً بعد أن طرح قائد الحزب منافيستو الحضارة الديمقراطية في خمس مجلّدات عام 2009-2010 كبديل عن الدولة القومية، ومع انطلاقة “ثورة روجافا” عام 2012، اعتمدت هذه الإدارة على أفكار أوجلان، مثل:
* الإدارة الذاتية الديمقراطية، وطُرِحت لاحقاً فكرة الاندماج مع الدولة في سوريا.
* تحرير المرأة كأساس للتحوّل الاجتماعي وتمّ تدوين حقوقها في العقد الاجتماعي.
*الاقتصاد المجتمعي المعتمِد على الكوبراتيفات (التعاونيات).
* الدفاع الذاتي – المشروع كتنظيم مجتمعي غير عسكري.
بالطبع سيعزّز البيان شرعية النموذج المجتمعي القائم على أفكار أوجلان، وقد يقلّل من اتّهامات الارتباط بـحزب العمال الكردستاني (PKK) تحت الضغوط التركية؛ فالبيان يدعو إلى دمج القوى في هياكل مدنية مثل المجالس والكومينات، ممّا يعزّز النموذج الديمقراطي وإعادة هيكلة التنظيمات.
يمكن القول إنّ البيان الختامي للمؤتمر الثاني عشر لـحزب العمال الكردستاني (PKK) يُمثّل تحوّلاً تاريخياً في مسار الحركة الكردية، مع تأثيرات متعدّدة المستويات على الساحات المحلّية والإقليمية والدولية، ورغم التحدّيات، إلّا أنّه يفتح أبواباً جديدة للنضال السياسي والمجتمعي، مع الحفاظ على الجوهر الفكري للنضال الكردي.
ملامح لحظة تاريخية من خلال تعابير وجوه قيادات الحزب
بالنظر إلى الصور والفيديوهات المتداولة على وسائل التواصل الاجتماعي والمنصّات والشبكات والتلفزيونات المحلية والعالمية عقب إعلان حزب العمال الكردستاني (PKK) إنهاء الكفاح المسلّح خلال مؤتمره الثاني عشر، بدت على وجوه القادة البارزين مثل جميل باييك، ومراد قره يلان، ودوران كالكان، وصبري أوك، والقيادات النسائية، ملامحُ مزيجة بين الحزن والصرامة والتأمّل والهدوء والتفاؤل والأمل.
وأعتقد أنّه، بحكم التجربة، تعكس هذه التعابير في ذات الوقت وعياً بثقل القرار الرمزي والنضالي، وانكساراً رمزياً عن السلاح لا عن النضال.
ويمكن قراءة الصمت المهيب في ملامحهم كعلامة على وقار اللحظة أيضاً، وتحمّل ثقل الانتقال من “نتيجة البندقية” إلى “تأثير ودور الفكر والتنظيم المجتمعي” لحلّ القضية الكردية وقضايا الديمقراطية في الشرق الأوسط والعالم.
جميل باييك، الرئيس المشترك لمنظومة المجتمع الكردستاني (KCK):
ظهر باييك بملامح جادّة ومتأمّلة، تعكس حرصه على الحفاظ على إرث الحزب خلال هذه المرحلة المفصلية، وأثناء القاء كلمته جدّد التزامه بكل ما يرسمه أوجلان لمستقبل الشعوب والسير على خطاه.
مراد قره يلان، قائد مركز الدفاع الشعبي (NPG):
بدت عليه ملامح الحزن والتأمّل، بحكم تاريخه النضالي الطويل كقائد عسكري ولديه كاريزما مؤثّرة جدّاً بين مقاتليه، سرعان ما تحوّلت ملامحه إلى التفاؤل عند الحديث عن مبادرة أوجلان والحلّ السياسي والسلمي ومواكبة المرحلة.
دوران كالكان، عضو مجلس رئاسة (KCK):
تعابير وجهه توحي بالقلق والترقّب تجاه المستقبل السياسي والتنظيمي للحزب، لكنّه سرعان ما أظهر تمسّكه بالمسار الذي رسمه قائده (يُعَدّ كالكان من المفكّرين الأيديولوجيين في الحزب، ومن الاشخاص المؤثّرين بين حركات اليسار التركي بكل تفاصيلها الفكرية والعقائدية).
صبري أوك، عضو مجلس رئاسة (KCK):
عكست ملامحه الحذر والجدّية كما هو، والتركيز على أهمية إدارة التحوّل الجديد، وهو المعروف بانضباطه الشديد ومعرفته الكاملة بتفاصيل وأسرار التفاوض في تاريخ الحزب مع الدولة التركية.
القيادات النسائية:
كل مَن شاهد الصور والفيديوهات، ولاحظ ملامحهنّ، رأى كيف جمعت وجوههنّ بين الحزن على نهاية نضالهن في الكفاح المسلّح، وبين التفاؤل بمرحلة نضالية جديدة تعتمد على السياسة والتنظيم المجتمعي، وهنّ الملتزمات بمُلهِمهِنّ ومفعّل ذواتهن الفاعلة نحو الحرية المنشودة لديهنّ (أوجلان). (17)
التداعيات الإيجابية والسلبية لقرارات المؤتمر بالتحوّل من السلاح إلى السياسة:
القرار الصادر عن المؤتمر الثاني عشر لحزب العمال الكردستاني، والقاضي بإنهاء الكفاح المسلّح وحلّ الحزب، يشكّل تحوّلاً مفهومياً واستراتيجياً بالغ الأهمية، تتعدّى دلالاته الحدود التنظيمية الصرفة إلى أبعاد سوسيولوجية وإقليمية عميقة؛ فهو لا يُنهي نمطاً من الفعل النضالي فحسب، بل يُطلِق جدلاً واسعاً حول آفاق الفعل السياسي الكردي، وحدود الممكن في ظل بنية إقليمية مأزومة، وصراعات مزمنة على الهوية والسلطة.
أولاً- الإيجابيات وفرص الانفتاح والتحوّل البنّاء:
- انتقال نحو استراتيجية أكثر مرونة ومدنية:
مغادرة الكفاح المسلّح كأداة للوصول إلى الهدف تمنح الحركة هامشاً واسعاً لإعادة صياغة مشروعها ضمن أدوات سلمية، تفتح الطريق نحو شراكات ديمقراطية أوسع، سواء مع القوى السياسية الكردية الأخرى أو مع الحركات اليسارية، والديمقراطية، والنسوية، والبيئية داخل تركيا وخارجها.
فالنضال لم يعد مرهوناً بالبندقية، بل أصبح مفتوحاً على إمكانيات التحالف، والتأثير المدني، وبناء نماذج مجتمعية تعكس المشروع الفكري للحركة.
- فتح قنوات تفاوض جديدة مع الفاعلين الإقليميين والدوليين:
بهذا القرار؛ ينتقل الحزب من موقع يُنظَر إليه كـ “مهدّد أمني” إلى فاعل سياسي يمكن التعامل معه دبلوماسياً (لوحظ ذلك بكل وضوح بعد صدور البيان الأخير للحزب).
فهذا التحوّل قد يُمهّد الطريق لاستئناف مسارات الحوار والانتقال إلى التفاوض مع الدولة التركية، لا من موقع القوة العسكرية، بل من منطلق الشرعية الشعبية والرؤية الفكرية، كما قد يُشجّع بعض القوى الدولية المتردّدة، خاصة في الغرب، على تبنّي مقاربة أكثر إيجابية تجاه القضية الكردية بالتزامن مع التغيّرات التي تشهدها السياسات الدولية.
- تحسين صورة الحزب دولياً:
لطالما شكّلت صفة “الإرهاب” عائقاً أمام تطبيع علاقة الحزب مع المجتمع الدولي. ومع تبنّي النضال الفكري – السياسي – الاجتماعي كخيار أساسي، تضع الحركة نفسها في موقع أخلاقي وقانوني جديد، ينسجم مع قيم الحقوق، والتحرّر، والسلام؛ وهو ما قد يُفضي إلى رفع بعض القيود، وتزايد الدعم المادي والسياسي من مؤسسات دولية تتّخذ هذا المنهج نسبياً في مهامها.
- إلهام لحركات التحرّر العالمية:
قد يشكّل هذا القرار نموذجاً لثورات وأحزاب في أميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا، والتي وصلت إلى مأزق شبيه، وفشلت في تحويل القوة المسلّحة إلى إدارة عادلة. فالحالة الكردية اليوم تُعيد تعريف النضال لا كصراع على السلطة، بل كفعل لبناء المجتمع وتحريره من الداخل كشكل جديد من “اليوتوبيا الأوجلانية”.
- تعزيز الحضور المحلّي والمجتمعي:
بابتعاده عن الطابع العسكري، يصبح الحزب أكثر قدرة على العمل ضمن المجتمع، وبناء مؤسسات تعليمية، نسوية، ثقافية، وبيئية، تُرسّخ نموذج الإدارة الذاتية الديمقراطية بوصفه أداة لبناء السلام من القاعدة؛ وهذا ما يعزّز من استقرار المناطق الكردية، ويُعيد ربط السياسة بحاجات الناس اليومية.
ثانياً- السلبيات وتحدّيات الواقع ومخاطر الانزلاق
- صراع فكري وذهني داخل الحزب:
لا يمكننا إنكار أنّ جزءاً من قواعد وأنصار الحزب – خاصّة مَن عاشوا تجربته في الجبال والسلاح – قد يرون في هذا القرار تراجعاً أو “تنازلاً”؛ فالتحوّل من البندقية إلى السياسة لا يعني فقط تغيير التكتيك كما هو معروف، بل يعني تغيير الذهنية ككل، وهو أمر يستلزم وقتاً طويلاً ومجهوداً فكرياً وتنظيمياً كثيفاً، ويُعَدُّ مهمة جدّية بقدر أهمية التحوّل ذاته.
- استمرار العِداء من الأنظمة الإقليمية:
رغم الطابع السلمي للبيان، إلّا أنّ تركيا وبعض الدول المحيطة قد تتعامل معه في كثير من جوانبه كخدعة تكتيكية، أو محاولة لإعادة التموضع العسكري، دون نيّة فعلية للتحوّل، وهذا ما قد يؤدّي إلى تصعيد القمع ضدّ المناطق الكردية في عدّة دول، وضدّ المتعاطفين مع النموذج الجديد، وأيضاً تعميق العزلة المفروضة على “مُنظّر المرحلة” السيّد عبد الله أوجلان، لا سيّما في ظل استمرار الخطاب القومي التركي المعبّأ ضدّ كل أشكال التعدّد والاعتراف (وقد صل في مرحلة ما إلى الفاشية).
- خطر التهميش السياسي والإعلامي:
قد يُفسِّر بعض الفاعلين القرار على أنّه إعلان هزيمة ناعمة، ما يدفعهم إلى تجاهل مطالب الحزب، أو تقزيم دوره السياسي، كما أنّ غياب العمل المسلّح كوسيلة ضغط قد يُضعف القدرة التفاوضية ما لم يُقابل بتنظيم شعبي واسع، وضغط مدنيّ داخليّ وخارجيّ موازٍ.
- تفكّك البنية الدفاعية في ظل غياب البدائل:
التحوّل السلمي بحاجة إلى ضمانات، وهذا ما تفتقر إليه المنطقة بشكل عام؛ ففي حال انسحاب الحزب من الجبال أو تقليص حضوره العسكري بشكل غير مدروس، قد تنشأ فراغات أمنية تستغلّها قوىً معادية، وتؤدّي إلى عودة الفوضى، خاصة مع وجود جماعات متطرّفة أو مصالح إقليمية متداخلة (انسحاب مقاتلي الحزب من أي منطقة سيشكّل فراغاً قد تستغلّه أحد الأطراف التي لا تريد لعملية السلام الاستمرار، وباعتقادنا أنّ الحزب في هذا الجانب ليس في غفلة من أمره، بل لديه بدائل غير معلَنة).
بيان أيار 2025 وسؤال ما العمل؟
تحليل مضمون البيان من الناحية السوسيولوجية يتضمّن عدّة جوانب يمكن التطرّق إليها عبر المحاور التالية:
- تحوّل جوهريّ في أدوات النضال: الانتقال من الكفاح المسلّح إلى النضال المجتمعي- المدني مع الحفاظ على البناء الديمقراطي للقاعدة الاجتماعية؛ ممّا يعيد تشكيل الهوية النضالية الكردية بعيداً عن الحتمية العسكرية.
- تطوير الفكر الأوجلاني: لم يعد الفكر الأوجلاني حكراً على الحزب، بل تحوّل إلى إطار مرجعيّ لفلسفة التحرّر المجتمعي؛ ممّا يعزّز شرعية النموذج السياسي في مناطق مثل شمال وشرق سوريا.
- إعادة تفعيل الدبلوماسية: يشتمل البيان على إشارات واضحة إلى أنّ استئناف الحوار مع تركيا يبقى رهناً بوجود إرادة سياسية ودولية داعمة، مع التأكيد على أنّ هذا المسار التفاوضي لن يكون على حساب المكاسب السياسية والثقافية للحركة.
- مراجعة داخلية شاملة: يدعو البيان القوى الكردستانية في عموم جغرافية كردستان (تركيا، سوريا، العراق، إيران، والمهجر) إلى إعادة تقييم أولوياتها الاستراتيجية في ضوء المتغيّرات الإقليمية والدولية.
- إعادة تعريف التضامن الأممي: يطرح البيان نموذج “الأمّة الديمقراطية” كإطار جامع للحركات التحرّرية العالمية، مع التركيز على القواسم المشتركة مع الحركات النسوية والبيئية والمناهضة للرأسمالية.
المدرسة الأوجلانية وأبعاد التحوّل الاستراتيجي
يعكس البيان تطوّراً في الفكر السياسي الأوجلاني؛ وذلك عبر أربعة أبعاد رئيسية:
- مجتمع ما بعد الدولة: التركيز على التنظيم المجتمعي الذاتي كبديل عن نموذج الدولة القومية، مع تعزيز آليات الديمقراطية التشاركية والاقتصاد الأخلاقي.
- التحرّر من الذكورية كنظام: اعتبار نقد الذكورية مدخلاً لتفكيك كل أشكال الهيمنة، مع جعل “المساواة الجنسوية” معياراً أساسياً لأي مشروع تحرّري.
- إعادة إنتاج التنظيم وفق أسس جديدة: الانتقال من البنية العسكرية الهرمية إلى أشكال تنظيمية أفقية قائمة على المجالس المحلّية (الكومينات) والتحالفات المدنية، مع الحفاظ على التماسك الفكري.
- التضامن الكونيّ: توسيع نطاق التحالفات ليشمل حركات اجتماعية عالمية، مع التأكيد على أنّ النضال الكردي جزء من معركة أوسع ضدّ أنظمة الهيمنة المالية والبيئية والجنسوية.
السياق القانوني لتصنيف الحزب إرهابياً
استند تصنيف حزب العمال الكردستاني إلى نشاطه المسلّح في منتصف الثمانينيات وبداية تسعينيات من القرن الماضي لأسباب كثيرة وبفعل الضغوطات التركية.
غير أنّ المحكمة العامة للاتحاد الأوروبي قد قضت في عام 2018 “بعدم قانونية إدراجه (PKK) بين أعوام 2014-2017”. (18)
حلّ الحزب لنفسه ومن ثم رفع الحزب مستقبلاً عن لوائح (الإرهاب) سيلعب دوراً متقدّماً في استدامة تجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال شرق سوريا، فالأخيرة تُعتبَر نموذجاً تطبيقياً لفكر الأمّة الديمقراطية، حيث تأسّست نظم الكومينات والمجالس، نسوية وبيئية، خارج منطق الدولة القومية وتعمل لإدارة المجتمع لنفسه، وسيتمخّض عنها إمكانية تقوية الاعتراف الدولي بالتجربة، وتسهيل الدعم الإنساني والسياسي، وتشجيع نماذج مشابهة. وبالتالي؛ سيساهم رفع التصنيف في الانتشار العالمي للفكر الأوجلاني من خلال:
- إخراج الحزب من تلبيسة الإرهاب (صُنّف من قبل بعض الدول لأسباب سياسية – منفعية)، سيتيح بناء تحالفات دولية أوسع دون عوائق سياسية أو قانونية.
- سيساهم في الشرعية التنظيمية، وتمكين النشطاء من العمل في منظمات رسمية وعلنية.
- التوسّع في التعاون الأكاديمي والثقافي، سيفتح المجال للجامعات والمراكز البحثية لدراسة الفكر الأوجلاني بحرّية وجدّية أكثر.
ويمكن للأحزاب والحركات التي تتبنّى الأوجلانية منهجاً أن تلعب دورها بعد رفع صفة الإرهاب بشكل أوضح وفق الخطوات التالية:
- بناء شبكات نسوية وبيئية، تؤسّس تحالفات عالمية عابرة للقوميات، وهي عملياً تحتاج إلى فكر يساهم في لعب دور ثوري منتج.
- التواصل ودعم حركات الشعوب الأصيلة، والتحالف مع قضايا السكان الأصليين وتجعلها تنشط وفق أسس فكرية تنظيمية متقدّمة وتواكب المرحلة للحصول على حقوقهم بشكل كامل.
- العمل مع المجتمعات البديلة، أوروبا وأمريكا، والعمل على انتشار نموذج “الكونفدرالية الديمقراطية” كبديل للنظم الموجودة في بعض دولها.
- ممارسة الدبلوماسية المدنية – المجتمعية، عبر المشاركة في مؤتمرات السلام وحقوق الإنسان وقضايا البيئة.
هذا يعني أنّ رفع اسم حزب العمال الكردستاني من قوائم الإرهاب سيشكّل خطوة حاسمة نحو الاعتراف بالتحوّل الجذري الذي خاضه.
فالتجارب الدولية تؤكّد أنّ الحركات المسلّحة السابقة يمكنها، عبر التحوّل الفكري والتنظيمي، أن تصبح شريكة في بناء السلام الداخلي وامتداداته الإقليمية والدولية.
التحدّيات والآفاق في فحوى البيان
رغم الطابع التاريخي للبيان، إلّا أنّ تنفيذه يتطلّب:
1- بناء آليات حماية مجتمعية تحفظ المكاسب من أي اختراقات أمنية.
2- تطوير أدوات سياسية قادرة على التأثير في المعادلات الإقليمية.
3- صياغة خطاب تواصلي يشرح مضمون التحوّل للقواعد النضالية (الشعب) والرأي العام العالمي.
هذا التحوّل ليس نهاية النضال، بل هو انتقال إلى مرحلة أكثر تعقيداً؛ حيث تنتقل المعركة من ساحة القتال إلى ساحات الفكر والسياسة والمجتمع.
فالقراءة التحليلية الجوهرية لهذا البيان تشير إلى أنّ:
لا يمكن فهم قرار حلّ الحزب وإنهاء الكفاح المسلّح دون استيعاب وفهم إدراك السياق العام للمتناقضات الظاهرة بكلّ جلاء في العالم والمنطقة (هذه ميزة يتحلّى بها حزب العمال الكردستاني وقائده التاريخي أوجلان)، ومن خلال هذا القرار فُتِحت الانسدادات السياسية وتمّ إيجاد الحلول للأزمة الفكرية المُعاشة على المستويَين الإقليمي والدولي، وهُزم التصاعد في نسبة الفاشية في تركيا نتيجة السياسة الأوليغارشية (الأقلّية الحاكمة) في تركيا.
ويأتي ذلك تزامناً مع فهم مآلات الدور الإسرائيلي والأمريكي في المسائل المتعدّدة للمنطقة، وصعود خطّ التناقض والتطبيع العربي – التركي على السواء، وازدياد الضغط العسكري على قوات حزب العمال الكردستاني في مناطق تواجدها في إقليم كردستان (مناطق جبال قنديل) دون توصّل تركيا إلى إحراز نصر واضح فيها، ولا يمكن التغافل عن مستوى تخفيف الضغط على تجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية، إضافةً لأهمية حلّ القضية الكردية في هذه المرحلة الهامة من عمر المنطقة.
كل هذه المتناقضات ترفع من مستوى شجاعة الخطوة التي قام بها الحزب، وعمقها المفاهيمي، وتشير إلى أنّها ليست انسحاباً، بل إعادة تموضع استراتيجي، يُقدِّم سردية “الانتصار الفكري” على منطق الحرب.
فالتحوّل من البندقية إلى السياسة لا يُنهي الصراع، بل يُعيد تعريفه، إنّه الانتقال إلى “ولادة المعنى” من الطبيعة الكونية والطبيعية والبشرية؛ وهذا التغيير لا يمكن تحقيقه إلّا إذا نجح الحزب في تحويل مفردات البيان إلى واقع ملموس، وثقافة جماعية، ومؤسسات قادرة على حماية منجزاته الفكرية والاجتماعية.
خلاصة مكثّفة للبحث:
المؤتمر الثاني عشر لحزب العمال الكردستاني ليس إعلان وقف للقتال فحسب، بل لحظة تحوّل معرفي واستراتيجي في تاريخ النضال الكردستاني.
إنّه انعطافة نحو بناء مجتمع أخلاقي – سياسي يقوم على الديمقراطية المجتمعية، والمساواة، والعدالة البيئية.
لكن نجاح هذا المشروع يتوقّف على قدرته على التجذّر في المجتمع، وعلى توافر إرادة دولية تخرج من أسر الحسابات الأمنية.
هنا لا يصبح التحوّل قراراً حزبياً فحسب، وإنّما بداية حقبة جديدة في الشرق الأوسط؛ حقبة تُعيد تعريف السياسة، وتعيد الاعتبار للإنسان بوصفه فاعلاً أخلاقياً حرّاً، لا موضوعاً للضبط والسيطرة.
بيان المؤتمر الثاني عشر ليس إعلان نهاية، بل إعلان ولادة جديدة، ولعلّ أبلغ وصف للمرحلة هو: “الخروج من الرصاصة إلى الفكرة، من الثورة المسلّحة إلى الثورة المجتمعية”.
وقد لا تكون هذه الطريق سهلة، لكن ما يميز حزب العمال الكردستاني عبر تاريخه هو قدرته على التأقلم وإعادة ابتكار أدوات النضال، بما يحفظ جوهر القضية الكردية، ويحوّلها إلى أفق تحرّري أمميّ.
ففي لحظة فارقة من تاريخ الشرق الأوسط، أطلّ عبد الله أوجلان، من عزلته القسرية الطويلة، ببيان في 27 شباط 2025، تزامن مع التحوّل التاريخي الذي أعلن عنه حزب العمال الكردستاني في مؤتمره الثاني عشر.
لم يكن التزامن بين النصَّين مجرّد مصادفة، وإنّما كان تجسيداً لرابطة عضوية بين الفكر والحركة، بين النظرية والممارسة، وبين ما يُكتَب داخل جدران العزلة وما يُنفّذ على تخوم الجبال والقرى والمجتمعات.
لقد جاء بيان أوجلان ليعلن ما هو أكثر من توصية سياسية:
لقد مهّد الطريق لتحوّل عميق في تصوّر النضال الكردي، وقدّم ما يمكن تسميته بـ ” مانيفستو ما بعد الحرب”، ليس فقط على مستوى التكتيك، بل على مستوى البنية المعرفية، والأفق الحضاري.
لم تعد القيادة محصورة في القدرة على اتّخاذ القرار العسكري أو السياسي، بل غدت مرادفًا للرؤية، وإعادة بناء القيم، وتأسيس ثقافة مجتمعية بديلة.
بهذا المعنى؛ فإن الأوجلانية بعد شباط 2025 لم تعد عقلاً مركزياً في حزب فحسب، وإنّما أصبحت مدرسة فكرية مفتوحة، تُخاطب الحركات الاجتماعية في الشرق الأوسط والعالم، وتطرح نموذجاً للتحرّر يتجاوز الحدود القومية، والدولتية، والأيديولوجيا المغلقة.
ففكر أوجلان اليوم لا يُقاس بعدد القواعد العسكرية وتنفيذها للعمليات النوعية أو عدد القرى المحرّرة، وإنّما بمدى قدرته على إعادة تعريف السياسة بوصفها فنّ بناء الحياة المشتركة، لا مجرّد تقنية للسلطة أو للهيمنة.
ويبدو أنّ ما ينتظر هذه المدرسة ليس يسيراً؛ فأن تُبدع نموذجاً مجتمعيا جديداً في ظلّ آلة الحرب، والتجويع، والعزلة، والاستهداف، لهو مهمّة جبّارة.
لكن التحدّي الحقيقي لا يكمن في البقاء فحسب، بل في إنتاج “ثقافة الحياة”(19)، كما يسمّيها أوجلان في مجلّده الرابع، ثقافة قادرة على الصمود، لا بالبندقية بل بالمعنى، لا بالقوة بل بالقيم.
فالانتقال من قيادة البندقية إلى قيادة الرؤية، لا يعني مغادرة النضال، بل تصعيده إلى مستوى أعمق، من خلال مستوى بناء الإنسان، والمؤسسة، والنموذج، والمستقبل.
وهذا التحوّل الاستراتيجي في مسار حزب العمال الكردستاني يمثّل نقطة مفصلية في نضال الشعب الكردي؛ فالانتقال إلى العمل السياسي والمجتمعي يمكن أن يعزّز من شرعية الحزب في السياقَين المحلّي والإقليمي أيضاً، كما يمكن أن يفتح أفقاً لتأسيس نموذج كردي- شرق أوسطي ديمقراطي يمكن تعميمه في المنطقة.
إنّ إعلان إنهاء الكفاح المسلّح لا يُفهم كقرار تقني أو تكتيكي فحسب، بل كمحصلة لرؤية فكرية عميقة تستند إلى فلسفة عبد الله أوجلان، وانتقلت من المحلّية إلى العالمية نحو أفق نضال جديد.
فهذه الفلسفة ترى في بناء المجتمع الأخلاقي – السياسي وسيلة للتحرّر دون عنف، وتدفع باتجاه تأسيس جبهة ديمقراطية شرق أوسطية، وتضع الكرد في طليعة ثورة ديمقراطية عالمية بديلة للثورات المسلّحة.
إنّ مسار الانتقال من الحرب إلى السلم، ومن العمل المسلّح إلى العمل السياسي العالمي، يحمل في طيّاته الكثير من الأمل، لكنّه محفوف بالمخاطر كذلك.
والأمل ينبع من نضج الحركة، وتطوّر خطابها، وتوسّع رؤيتها، بينما الخوف يأتي من تعنّت الدولة، وغياب الإرادة السياسية للإصلاح.
ومع ذلك؛ فإنّ الفرصة التاريخية المُتاحة اليوم لتأسيس مجتمع ديمقراطي في تركيا وسوريا والعراق وإيران، تستند إلى وعي جديد يتجاوز الانتماءات الضيّقة، ويعيد تعريف مفهوم الأمّة كفضاء ديمقراطي ومدني تعدّدي يضمّ كلّ مَن لم يجد لنفسه مكاناً في الدولة القومية الحديثة.
إنّ نجاح هذه المرحلة لا يتعلّق فقط بمصير الكرد أو حزب العمال الكردستاني، بل بمصير المنطقة بأسرها، والتي تحتاج اليوم إلى أن تعيد اكتشاف نفسها من خلال مفاهيم الديمقراطية المجتمعية، والتشاركية، والتكامل بين الإنسان والطبيعة، كما تطرحها الحداثة الديمقراطية.
فالعالم اليوم مفتوح أمام مَن يمتلكون الشجاعة للانفتاح (وهو ما يميّز حزب العمال عن غيره من الحركات الثورية)، والقدرة على تجاوز ضيق الهويات المغلقة، ومَن يصرّ على التقوقع داخل قوقعات قومية أو طبقية أو دينية فسيخسر رهان التاريخ.
إنّ قرار حزب العمال الكردستاني بإنهاء الكفاح المسلّح يُعَدّ لحظة تاريخية كبرى، تنطوي على تحدّيات تتعلّق بإعادة إنتاج الهوية النضالية، وبناء سردية جديدة تحفظ الرمز دون التشبّث بالسلاح.
فالمرحلة المقبلة تتطلّب استيعاباً شعبياً عميقاً، وإرادة تنظيمية قادرة على إدارة الانتقال دون التفريط بالأهداف التحرّرية؛ أي أنّ مسؤولية التحوّل نحو المستقبل كبيرة.
مهمّة المدرسة الأوجلانية في النتيجة هي أن:
تتحوّل من فكرة في رأس قائد ومفكّر، إلى ثقافة في جسد مجتمع، ومن نصّ يُقرأ في السجون، إلى ممارسة تُبنى في المدن والقرى والأحياء “كيوتوبيا إينشتاينية” للقرن الحادي والعشرين.
مصادر ومراجع البحث
1-مانيفستو الحضارة الديمقراطية المجلد الخامس – عبد الله أوجلان – الطبعة الخامسة
2– مانيفستو الحضارة الديمقراطية المجلد الثالث – عبد الله أوجلان الطبعة الخامسة
3.3-16 بيان مؤتمر حزب العمال الكردستاني المترجمة للغة العربية – وكالة فرات للأنباء.
- 4. 17 صور وفيديوهات منشورة على قنوات وصفحات متعددة، والقريبة من الحزب.
5- 18قرار المحكمة العامة للاتحاد الأوروبي الصادر عام 2018 يورونيوز-عربي.
6- 19مانيفستو الحضارة الديمقراطية -المجلد الرابع -عبد الله أوجلان -الطبعة الثالثة.