نتائج استبيان عن العوائق التي تعترض هيمنة تركيا على الساحل السوري
يمتاز الساحل السوري بأهمية جيوسياسية كبيرة في منطقة شرق المتوسط، كونها تعد البوابة البحرية للطرق التجارية البرية القادمة من العراق وإيران، وممراً لأنابيب نقل النفط والغاز من الخليج وإيران والعراق إلى الأسواق الغربية، بالإضافة إلى اكتشاف مكامن للغاز في المياه الإقليمية السورية، كما وتعد بالنسبة لروسيا ذات أهمية استراتيجية؛ حيث لا تزال تحتفظ بقاعدة طرطوس كقاعدتها الوحيدة في البحر المتوسط بالإضافة إلى قاعدة حميميم الجوية. ومنذ شهر آذار الفائت شهدت مناطق متفرقة من الساحل السوري اشتباكات عنيفة بين مسلحين علويين وقوات سلطة دمشق، أسفرت عن وقوع عشرات القتلى والإصابات من الطرفين، وتنفيذ عمليات انتقامية بحق العلويين تمثلت بارتكاب مجازر وانتهاكات ممنهجة لحقوق الإنسان على يد كل من: الفصائل المتطرفة التي أعلنت اندماجها في وزارة الدفاع التابعة لسلطة دمشق، والمجموعات المسلحة الموالية لها والتي سمتها دمشق بـ”القوات الرديفة”، وذلك استناداً إلى العشرات من التقارير الحقوقية وشهود العيان من العلويين الذين لجأوا إلى المناطق الآمنة في شمال وشرق سوريا، وسط مواقف دولية بدت غير مهتمة لما يجري من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية التي استهدفت عشرات الآلاف من المدنيين معظمهم من الطائفة العلوية.
وسط هذه التطورات الأمنية وُجهت الكثير من الاتهامات إلى كل من تركيا وإيران وروسيا بتحملها قسماً من المسؤولية عن تدهور البيئة الأمنية في الساحل، حيث تم إتهام إيران بدعم المسلحين العلويين وإتهام تركيا بدعم المجموعات المسلحة التي ارتكبت الفظائع، وروسيا بالاستفادة من الفوضى الأمنية لإحداث ظروف أمنية وسياسية جديدة يمكن من خلالها عقد صفقة تسمح لها بالاحتفاظ بقاعدتيها، وهناك العشرات من التحليلات الأخرى، وعلى الرغم من عدم توفر معلومات موثوقة تؤكد صحة هذه التحليلات إلا أنه يمكن تلمس جوانب من الحقيقة في سياقها؛ فتركيا لها مشروع إعادة احتلال بلاد الشام عبر تنفيذ مخطط ما يسمى بـ “الميثاق الملي” والذي بموجبه احتلت أجزاء من شمال سوريا، حيث وصف أكثر من مسؤول في حكومة “حزب العدالة والتنمية” بلاد الشام، كجزء من الإرث العثماني، والتي نغصتها على ما يبدو وصف أقطاب النظام الجديد في دمشق على أنهم ورثة الأمويين، والمؤشر على ذلك عدم قدرة أردوغان على إمامة الصلاة في المسجد الأموي على الرغم من الإعلان عن نية ذلك في أكثر من تصريح وموقف. من ناحية أخرى اضطرت تركيا إلى الموافقة على الانتشار فوق خط عرض (خط تدمر) استناداً إلى ما أكدته العديد من المصادر الأمنية والإسرائيلية التي شددت على أن إسرائيل لن تتسامح مع استيلاء تركيا على القواعد الجوية قرب تدمر أو على حدودها الشمالية، يذكر أن القوات الجوية الإسرائيلية دمرت عدد من المطارات العسكرية في المناطق الموازية لهذا الخط بعد أن قام بزيارتها ضباط أتراك.
ومع فشل تركيا في السيطرة على شمال شرق سوريا والبادية وجنوب سوريا، لم يبقى أمام تركيا سوى شمال وغرب سوريا، وتبدو مسألة ترسيخ الهيمنة في محافظات حلب وإدلب وحماه سهلة نسبياً نظراً لوجود حاضنة لجماعة الإخوان المسلمين الموالية لها في هذه المحافظات، أما الهيمنة على الساحل السوري فتبدو معقدة بدرجة كبيرة لعدة عوامل أبرزها: عدم ثقة المجتمع المحلي بتركيا لاعتبارات تاريخية ومذهبية وسياسية، ووجود قاعدة جوية روسية (حميميم) وأخرى بحرية (قاعدة طرطوس)، بالإضافة إلى الأهمية الجيوسياسية للساحل التي تمت الإشارة إليها. وبغرض بناء تصور عام عن أبرز العوائق التي تمنع تركيا حتى الآن من تحقيق هيمنة فعلية على الساحل السوري استناداً إلى الأسباب الرئيسية التي تتقاطع عليها آراء المحليين، تم اعداد استبيان (الكتروني – يوتيوب) مكون من سؤال واحد مكون من سؤال واحد مغلق، وتم نشره بتاريخ 2025.05.21 وإنهاءه بتاريخ 2025.05.31، وشارك فيه عينة من المهتمين بالشأن السياسي، وذلك بالشكل التالي:
السؤال: برأيك؛ أي عامل من هذه العوامل يشكّل عائقاً رئيسياً أمام فرض هيمنة تركيّة على الساحل السوري؟
- عدم ثقة المجتمع المحلي بتركيا
- المصالح الغربية
- القواعد الروسية
- إيران
وكانت نسب الإجابات بالشكل التالي:
ترى النسبة الأكبر من العينة (52%) أن “عدم ثقة المجتمع المحلي بتركيا” يشكّل عائقاً رئيسياً أمام فرض هيمنة تركيّة على الساحل السوري، ويعكس هذا الرأي مسؤولية تركيا عن الانتهاكات التي ارتكبت ولا تزال ترتكب بحق المجتمع المحلي في الساحل السوري من قبل الفصائل الموالية لها، وما يؤكد هذا الأمر فرض الاتحاد الأوروبي مؤخراً عقوبات على اثنين من زعماء الفصائل وفصيليهما والذين يحملون رتباً عسكرية في وزارة دفاع السلطة، لمسؤوليتهم عن ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، من ناحية أخرى معظم الطوائف القاطنة في المناطق الساحلية والعرب العلمانيين وحتى القوميين والإسلاميين السلفيين فيها لا يمتلكون أي رابطة معنوية تجعلهم يثقون بتركيا، فالعلويون يطالبون بالحماية الدولية والسلفيون ينحازون إلى المملكة العربية السعودية والقوميون والعلمانيون لا يمتلكون موقفاً ودياً تجاه تركيا.
أما نسبة 35% من العينة فاعتبرت “المصالح الغربية” عائقاً رئيسياً أمام فرض هيمنة تركيّة على الساحل السوري، ويعكس هذا الرأي قناعة سياسية لدى السوريين منذ الحرب العالمية الأولى بوجود أطماع ومصالح غربية في سوريا، وخاصة منطقة الساحل السوري لما تحمله من أهمية جيوسياسية في المستوى الإقليمي وقدرة خصوم الغرب على التأثير على المصالح الغربية في الشرق الأوسط من خلال السيطرة على هذه المنطقة، وتشير السياسة الروسية والإيرانية في مواجهة السياسة الغربية في سوريا قبل سقوط النظام البعثي إلى هذه الحقيقة. من ناحية أخرى تعد كلاً من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا من أكثر الدول التي تهيمن فعلياً على الدولة السورية بعد سقوط النظام البعثي، من خلال نظام العقوبات وامتلاك القوات العسكرية القادرة على التحكم في مسار سياسة الدولة، ولهذه الدول مصالحها الاستراتيجية في الساحل الأمر الذي يعني منع هيمنة تركية فعلية عليها، وما يشير إلى ذلك قمة باريس التي عُقِدت في شهر آذار الفائت بمبادرة فرنسية جمعت رئيس سلطة دمشق “أحمد الشرع” مع رؤساء فرنسا “إيمانويل ماكرون” ولبنان “جوزيف عون” وقبرص إضافة إلى رئيس الوزراء اليوناني، والتي أوقف على ما يبدو المساعي التركي لإجبار “الشرع” على رسم الحدود البحرية مع تركيا، والدليل الآخر عدم ممارسة الدول الغربية ضغوط كبيرة أو اشتراطات لإجبار سلطة دمشق على إنهاء مهمة قاعدتي روسيا في الساحل السوري، والتي اعتبرتها 11% عائقاً رئيسياً أمام فرض هيمنة تركيّة على الساحل السوري، ولطالما كان الساحل السوري منطقة نفوذ روسية منذ فترة الاتحاد السوفيتي، وقاعدتها في طرطوس موجودة بموجب اتفاقيةٍ مع النظام البعثي تخضع لقواعد “اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات” (VCLT) وهي اتفاقية دولية تنظم المعاهدات بين الدول، لذلك تعرف باسم “معاهدة المعاهدات”، خاصة أن النظام في تلك الفترة كان يحظى باعتراف رسمي من قبل القانون الدولي. كما أن روسيا لن تتنازل بسهولة عن نفوذها في الساحل السوري لصالح تركيا لاعتبارات استراتيجية.
أما بالنسبة لإيران كعامل مُعيق لفرض هيمنة تركيّة على الساحل السوري فقد حظيت بأقل نسبة من الآراء (2%)، قد يكون مرد ذلك فشلها في الحفاظ على حليفها (النظام البعثي) وقناعة غالبية العينة بفقدان إيران لنفوذها في سوريا وبعدها الجغرافي عن سوريا، ما يشير إلى ذلك تنوع آراء غالبية العينة بين عدم ثقة المجتمع المحلي بتركيا والمصالح الغربية والقواعد الروسية، واعتبارها عوامل تعيق بنسبة ما فرض هيمنة تركية على الساحل السوري.
تشير معظم التفاعلات مع الاستبيان إلى قناعة عامة بعدم قدرة تركيا على فرض هيمنتها على الساحل السوري، وتعكس في الوقت ذاته عدم رغبة العينة في تحقيق هيمنة تركية على الساحل السوري. من ناحية أخرى يشير عدم قدرة تركيا على فرض هيمنتها إلى وجود عوائق لا طاقة لتركيا على تجاوزها في الوقت الحالي على الأقل، ومن المتوقع أن تكشف التطورات السياسية والأمنية في سوريا الكثير من الحقائق المتعلقة بهذا الأمر في المستقبل.