الفكرُ الدوغمائيّ عائقٌ أمام الحلّ في سوريا

إنّ ما يحدث في الشرق الأوسط هو نتاج فشل الأنظمة القومية التي لم تستطع الخروج من قوقعة نظام اللون الواحد، والتي لم تجلب لشعوب الشرق الأوسط سوى الويلات؛ فقد اعتمدت في نظام حكمها على الجمود الفكري الذي يعتمد على سياسة إنكار الاخر، و تُعتبَر تركيا من أبرز هذه الأنظمة؛ فهي تعتبر سوريا البوّابة التي يمكن من خلالها استرجاع النفوذ العثماني؛ لذلك تدافع عن هذه الفكرة بشتّى الوسائل غير آبهة بحقوق المكوّنات في الداخل السوري والتركي؛ فهي إلى الآن لم تستطع تقبّل فكرة الوجود الكردي في المنطقة؛ والسبب هو جمودها الفكري والعقائدي تجاه الاخر.

وعلى النهج ذاته يعمل النظام في سوريا؛ فبعد حوالي عقد مليء بالقتل والدمار والانهيار لايزال هذا النظام يتشبّث بمبادئ الفكر البعثي الذي ألقى بويلاته على الشعب السوري بمختلف مكوّناته؛ فهو ليس على استعداد لتقبّل فكرة التغيير والانفتاح السياسي في سوريا، ومايزال بعيدًا كلّ البعد عن الحوار والدبلوماسية في حلّ الازمة السورية، وعلى ذات النهج أيضًا تعمل المعارضة السورية المسلّحة التي أصبحت أداة بيد دول لها أطماع في الجغرافيا السورية وباتت تعمل على نهج الدول التي تدافع عن فكرها القومي؛ ونتيجة لهذه الصراعات التي لم تجلب سوى الويلات للمنطقة، كان لا بدّ من خطّ ثالث بديل عن الأفكار القومية والجزمية التي يتم التعامل بها مع شعوب المنطقة، وهذا البديل جاء من خلال إعلان الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، والتي تُعتبَر تجربة فريدة من نوعها في الشرق الأوسط.

لذا؛ فإنّ الأنظمة القومية تعتبر الإدارة الذاتية نموذجًا يمكن أن يكون بديلًا عنها في المستقبل؛ ولأنّ هذه الأنظمة إلى الآن لم تتقبّل فكرة فشلها في إدارة المنطقة، فإنّها تقوم بردّة فعل تجاه الإدارة الذاتية وتحاول بشتّى الوسائل إفشال هذه التجربة، وبناء على ذلك فإنّ الإدارة الذاتية تقف أمام تحدّيات كبيرة على المستوى الداخلي والخارجي.

التحدّيات التي تواجه الإدارة الذاتية:

تركيا هي من أبرز الدول التي تشكّل تحدّيًا استراتيجيا للإدارة الذاتية؛ والتي دخلت الصراع بشكل مباشر من بوّابة عفرين التي كانت تُدار على شكل إدارة الذاتية، واعتبرتها تركيا نقطة جغرافية استراتيجية بالنسبة للإدارة الذاتية، وبناءً على هذه الأهمية الجغرافية فإنّ تركيا قد دخلت بشكل مباشر وبقوة عسكرية لتحتلّ عفرين، والهدف هو اتّخاذ عفرين ورقةً ضغط قوية في المفاوضات على مستوى الدول المعنية بالملف السوري، وكونها منطقة غنية بالموارد الزراعية فقد اعتبرتها تركيا مصدر دخل قومي يساهم في حلّ أزماتها الاقتصادية، وتعتبر عفرين موقعًا ذا أهمية جيوسياسية. أكملت تركيا عملياتها نحو مدن سورية أخرى مثل إدلب وسري كانيه وكري سبي، ولا تزال حكومة حزب العدالة والتنمية -وعلى رأسها أردوغان- تلوّح بشنّ عمليات عسكرية أخرى ضدّ الإدارة الذاتية؛ إلّا أنّ تضارب المصالح وتعقيد مشهد توزّع النفوذ على الجغرافيا السورية لم يفسح المجال إلى الآن لأيّة عملية عسكرية تركية، ومع ذلك تستغلّ تركيا كلّ فرصة لخلق فوضى في شمال وشرق سوريا، وتوضّح ذلك  من خلال استغلال تركيا لأحداث دير الزور والهجمات التي تتعرّض لها قوات قسد من قبل ميليشيات تدعمها إيران وحكومة دمشق بمباركة روسيا، العدو اللدود للتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، لتشنّ تركيا حملة إعلامية محرّضة وتبدأ بتصريحات تؤيّد الجماعات المدعومة من قبل حكومة دمشق وإيران في هجماتها على قوات قسد والتحالف الدولي ضدّ داعش، بالإضافة لهذه التصريحات فقد تحرّكت المعارضة السورية المسلّحة المدعومة من تركيا، وحشدت قوّاتها في مناطق تواجدها، ورافق ذلك استهداف مراكز مدنية وحيوية في الإدارة الذاتية، والذي أثّر بشكل مباشر على سبل العيش لما يقارب خمسة ملايين سوري لجؤوا من جميع المحافظات السورية إلى شمال وشرق سوريا. ما يمكن ملاحظته من خلال ما تقوم به تركيا من محاولات التقرّب من حكومة دمشق هو عجزها عن القيام بأيّة عملية عسكرية مباشرة. لذا؛ تحاول ضرب المنطقة من خلال خلق الفوضى عبر إثارة نعرات طائفية وعرقية وحملات تحريض في شمال وشرق سوريا؛ كون المنطقة تتنوّع مكوناتها العرقية والإثنية، وذلك عبر مليشيات تدعمها دمشق وطهران وبعض الخلايا التابعة للتنظيمات الإرهابية التي تدعمها تركيا.

– كلّ هذه الاحداث والمحاولات التي تأتي في سياق ضرب الاستقرار في مناطق شمال وشرق سوريا تُعتبَر تحدّيات يجب على الإدارة الذاتية أن تأخذها بعين الاعتبار، تُضاف إلى ذلك التنظيمات الإرهابية التي تُعتبَر تحدّيًا لا يقلّ خطورة عن هذه الأنظمة القومية ذات الفكر الأحادي وإن اختلف الأسلوب، ولتوفير الحماية السياسية والوقوف في وجه المحاولات التركية في ضرب الاستقرار فإنّ الادارة الذاتية بحاجة الى إعادة النظر في تحالفاتها، وخاصة مع التحالف الدولي ضدّ تنظيم داعش الإرهابي، لأنّ الإدارة الذاتية بحاجة إلى تحالفات إستراتيجية وليست تكتيكية؛ إذ يمكن ملاحظة أنّ أيّ نشاط لهذه التنظيمات ترافقها هجمات تركية على المنطقة وتُقابَل بصمت دولي، لذلك فإنّ التحالفات على المستوى السياسي الاستراتيجي تُعتبَر ضرورة ملحّة وحاجة ضرورية لحماية مناطق شمال وشرق سوريا على المدى البعيد، كما أنّ تمكين هذه العلاقات السياسية يُعتبَر ركنًا أساسيًا للاعتراف السياسي بإقليم شمال وشرق سوريا، وجعله يتمتّع بخصوصية. يمكننا أن نذكّر بالانسحاب الأمريكي المفاجئ في عهد ترامب، والذي جرى دون سابق إنذار، وخلّف تداعيات سياسية وعسكرية على شمال وشرق سوريا. المشهد السياسي والعسكري ينذر بصيف ساخن في الشرق الأوسط على مستوى توزّع النفوذ، والتحالفات الجديدة التي قد نشهدها مع اقتراب الانتخابات الأمريكية التي قد تغيّر المشهد السياسي كلّيًا، وحرب غزة، والمناوشات العسكرية بين إيران وإسرائيل، والحرب الأوكرانية، وهجمات تنظيم داعش التي بدأت بالظهور من جديد في كلّ من العراق وسوريا؛ فإنّ الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا ليست خارج هذا المشهد، لذلك فهي أمام تحوّلات سياسية ستكون لها آثار على المستوى الاستراتيجي، وخاصة على الصعيد التركي بعد تراجع شعبية حزب العدالة والتنمية في انتخابات البلديات، واستغلال هذه الفرصة بالنسبة للإدارة الذاتية إنّما يكون بتوطيد العلاقات على المستوى السياسي والعسكري والتنموي مع التحالف الدولي والدول الإقليمية المعنية بالملفّ السوري، إنّ الوصول إلى اعتراف بخصوصية إقليم شمال وشرق سوريا على المستوى السياسي بات ليس ببعيد، ولكنّه لن يكون قريبًا إن لم تخرج الإدارة الذاتية في علاقاتها عن إطار التحالفات العسكرية ومحاربة تنظيم داعش الإرهابي، والإدارة الذاتية في هذا التوقيت أقوى من أي وقت مضى، فقوّتها على الأرض ومحاربتها لأخطر تنظيم إرهابي يهدّد العالم وقدرتها على حماية السجون التي تحوي أخطر قيادات التنظيم، كلّ ذلك مؤشّرات تدلّ على كفء الإدارة الذاتية وقوّاتها العسكرية في حماية المنطقة، وهي قادرة على الحضور في تغيير أيّ مشهد سياسي أو عسكري على مستوى سوريا بشكل عام، وإقليم شمال وشرق سوريا على وجه الخصوص.

المشهد السوري الساخن لا يعطي انطباعًا سوى بصراع بين الأنظمة القومية التي بدأت تخشى من انهيارها وبين إدارة أثبتت أنّها يمكن أن تكون البديل الحقيقيّ لهذه الأنظمة، وذلك عبر ديمقراطيتها وتعزيزها مبدأ التشاركية بين جميع المكوّنات.

إنّ إصرار الأنظمة القومية وعدم خروجها من قوقعتها يشكّل عائقًا كبيرًا أمام الحلّ في سوريا، كما يُعتبَر سببًا في إطالة أمد الأزمة السورية؛ كون تلك الأنظمة لا تملك حلولًا بديلة عن العنف والعسكرة لحماية جمودها الفكري، كما أنّها لا تقبلّ بأيّ تغيير ديموقراطي يطرأ على منطقة الشرق الأوسط عموماً وسوريا خصوصاً.

زر الذهاب إلى الأعلى