مجلة دراسات استراتيجية العددان 17-18
صيف وخريف 2024

تأسّست الإدارة الذاتية في سياق لم يكن في حسبان قوى الهيمنة العالمية والإقليمية، وتمكّنت – الإدارة – من البقاء في بيئة أمنية معقّدة ومليئة بالمخاطر، وشكّل المجتمع الكردي والعربي والسرياني وباقي المكوّنات عمادها الرئيسي، وستستمرّ هذه الإدارة طالما حافظت على ثقة تلك المجتمعات؛ لذلك يُعَدُّ من الضروريات ترسيخ مبادئ الحكم الرشيد، ومماثلة خطر الفساد والإهمال الوظيفي بخطرَي تنظيم داعش والجريمة المنظّمة وأجندات أنظمة الحُكم الإقليمية المتطرّفة، كما يجب إيلاء الاهتمام لمختلف المقترحات، ومن المتوقّع أن تتّجه الأمور نحو هذا المسار؛ كون قضايا الأمن والدفاع في إقليم شمال شورق سوريا تُعَدّ قضية وجودية لمنظومة الإدارة الذاتية بكافّة مؤسّساتها وهيئاتها السياسية والإدارية والعسكرية والثقافية والاجتماعية.
إنّ قضايا الأمن والدفاع قد تحوّلت إلى قضية وجود في تاريخنا المعاصر، وكل كيان، سواء أكان دولة أو حكومة محلية أو تنظيمًا أو حتى عائلة، يمتلك مقاربة خاصة به في التعامل مع هذه القضايا.
فقضايا الأمن والدفاع التي يشهدها إقليم شمال وشرق سوريا منذ بداياته هي في الأساس قضية وجودية، إذ أنّ هناك تحدّيات أمنية تتمثّل بكل من: السياسة العدوانية لأنظمة الحكم الإقليمية، والأنشطة المتطرّفة لتنظيم داعش، والأعمال المندرجة في إطار الجريمة المنظّمة، والتدهور البيئي؛ وجميعها تُعَدّ مصدراً لمعظم المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والصحية والسياسية في الإقليم، وتأتي في مقدّمتها الهجرة وقضية المهجّرين والغلاء المعيشي.
إنّ حجم الهجمات والجرائم التي تم انتهاجها ضدّ الإدارة الذاتية الديمقراطية لإقليم شمال شرق سوريا قد تفاقم من نواحٍ عدة؛ ولخطورة وقسوة هذه الجرائم التي تمسّ القيم والمبادئ الإنسانية المُعترَف بها من قبل المجتمع الدولي، والتي صُنِّفت كجرائم دولية، كان لِزاماً من الناحية القانونية ردعها بآليات قضائية على المستوى الداخلي للإدارة الذاتية، كونها – الإدارة – هي إحدى الكيانات الفاعلة من غير الدول بموجب القانون الدولي التعاهدي لحقوق الإنسان وموقف الهيئات التابعة للأمم المتحدة والمحكمة الأوربية لحقوق الإنسان، وبوصفها – الإدارة الذاتية الديمقراطية – هي الجهة الوحيدة في ظل الظروف السائدة التي بمقدورها توفير ضمانات حقوق الإنسان للأشخاص الخاضعين لولايتها ” إقليم شمال شرق سوريا”، وبخلاف ذلك؛ يكتسي وضع حقوق الإنسان فيها غموض وخشية من عدم وجود جهة تتحمّل التزامات حقوق الإنسان، ويمكن مساءلتها في حالة حدوث انتهاكات لحقوق الإنسان، وهو ما يضعف بلا شك قيمة المعايير والضمانات ذات الصلة، وخاصة بعد تقاعس القضاء الجنائي الدولي وأدائه في التقاضي عن الجرائم الدولية، ليكون السبيل الوحيد للقضاء والعدالة للإدارة الذاتية في المحاسبة عن هذه الجرائم، خصوصاً أنّ العديد من الأمارات القانونية تؤكّد على هذا الأمر، ابتداءً بالاختصاص التكاملي للمحكمة الجنائية الدولية، والذي يعني ضمناً أولوية التقاضي المحلّي، مروراً بقاعدة قانونية دولية وعرفية مفادها “الواجب في المقاضاة عن الجرائم الدولية”، وانتهاءً بواقع الإجرام الذي تركته الهجمات المتعدّدة والمتنوّعة (الدولة التركية وداعش)؛ حيث يؤدّي الفراغ التشريعي المتّصل بتلك الجرائم إلى الانحراف والخطأ في تكييف الأفعال على أنّها جرائم إرهابية، وعليه؛ فمن الأهمية بمكان تحديد الأسس العلمية التي يمكن الاستناد إليها في تعريف الجرائم الدولية.
وكما أنّ قضايا الأمن والدفاع وكذلك مقاضاة الجرائم الدولية أمام محاكم الإدارة الذاتية تسهم في تحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة؛ فإنّ تطوير الواقع الزراعي من خلال مواجهة التحدّيات يسهم أيضًا في ذلك؛ فإقليم شمال وشرق سوريا يُعَدُّ من المناطق التي تعتمد بشكل كبير على الزراعة كمصدر رئيسي للمعيشة والاقتصاد، وتمتدّ الأراضي الزراعية الخصبة في هذه المنطقة عبر العديد من المحافظات مثل الحسكة والرقة ودير الزور ومنبج وغيرها، وتشكّل مصدرًا أساسيًا لإنتاج القمح والشعير والقطن، إلى جانب تربية الماشية والأنشطة المرتبطة بالإنتاج الحيواني، إلّا أنّ هذا القطاع الحيوي يواجه اليوم تحدّيات جسيمة تتفاقم بفعل التغيّرات المناخية الحادّة والتدهور البيئي، وبالتزامن مع تزايد هذه التحدّيات؛ أصبحت الحاجة ملحّة لتطوير نظم زراعية مستدامة ومرنة قادرة على التكيّف مع التغيّرات المناخية الحالية والمستقبلية؛ إذ يتطلّب ذلك تحوّلًا كبيرًا في طرق الإنتاج الزراعي واستخدام الموارد، من أجل تحسين الإنتاجية الزراعية وضمان الأمن الغذائي.
وموضوع الأمن الغذائي بات أمرًا يشغل بال الحكومات والدول، فهو ضرورة استراتيجية من ضروريات الحياة، ولا تستمرّ حياة الأفراد والجماعات دون غذاء، وتُعتَبر الحدود الدنيا للأمن الغذائي من أهم المرتكزات التي تقوم عليها حياة البشر.
إنّ الأمن الغذائي في مناطق الإدارة الذاتية (التي كانت – قبل الأزمة – سلّة الغذاء السورية ومصدرها الأول في إنتاج الحبوب وخاصة القمح) يختلف جزئيًا عن الداخل السوري، لعدّة أسباب، أهمها؛ حالة الاستقرار النسبي تحت حكم الإدارة الذاتية الديمقراطية من جهة، ومن جهة أخرى لم تشهد أراضيها الزراعية تخريبًا كبيرًا بفعل الحرب. ورغم ذلك فإنّها شهدت تراجعًا في إنتاج القمح، نتيجة الجفاف وقلّة الأمطار، بالإضافة إلى تعرّض المحاصيل الزراعية للحرائق المتعمَّدة خلال السنوات الماضية من قبل الجيش التركي ومرتزقته، أو لمصلحة جهات داخلية تطمح بالعودة إلى مناطق الإدارة الذاتية؛ وتُعَدُّ أساليب الحصار والتجويع فكرة أساسية في طريقة تعامل تلك الجهات مع مناطق شمال وشرق سوريا.
وقد عرف التاريخ القديم والحديث والمعاصر أزمات اقتصادية كبيرة على صورة مجاعات عصفت بمناطق مختلفة من العالم، خاصة في قارة أفريقيا وقسم من قارة آسيا، وهناك دول لا تستطيع توفير الحد الأدنى من الغذاء لمواطنيها في الوقت الحاضر؛ ولا يخفى على أحد أنّ المادة الرئيسية التي يعتمد عليها العالم في توفير الأمن الغذائي هي القمح والذرة والشعير والبقوليات مثل الحمص والعدس والفول …الخ.
يبدو أنّ قضايا الأمن والدفاع في شمال وشرق سوريا، والتقاضي عن الجرائم الدولية أمام محاكم الإدارة الذاتية من ناحية، وتطوير النُظم الزراعية وتحقيق الأمن الغذائي في المنطقة من ناحية أخرى؛ إنّما هي مسائل مترابطة ولا يمكن الفصل بينها كونها تكمل بعضها بعضا؛ فالأمن والدفاع ومقاضاة الجرائم الدولية أمام محاكم الإدارة الذاتية يسهم في تعزيز الأمان في المنطقة، كما أنّ تطوير النُّظُم الزراعية وتحقيق الأمن الغذائي يسهم بشكل فعّال في تطوير المجتمع وترسيخ دعائم الاستقرار لدى كلّ مكوّناته، ويدفع تلك المكوّنات إلى التمسّك بالأرض في مواجهة جميع التحدّيات المحدقة، سواء على الصعيد المحلّي أو الإقليمي أو الدولي.
يتناول العددان 17-18 من مجلة دراسات استراتيجية الدراسات التالية:
قضايا الأمن والدفاع في إقليم شمال وشرق سوريا- مركز روج آفا للدراسات الاستراتيجية
اختصاص التقاضي عن الجرائم الدولية أمام محاكم الإدارة الذاتية.- مركز روج آفا للدراسات الاستراتيجية
تطوير النظم الزراعية في إقليم شمال وشرق سوريا كاستجابة لتغيّر المناخ- المهندس: يعرب حسن
الأمن الغذائي في شمال وشرق سوريا- د. مرشد اليوسف
لتحميل المجلة اضغط على الرابط التالي : دراسات استراتيجية العددان17_18