القفقاس وظاهرة التطرف

نذير صالح

القوقاز وإشكالية الإسلام السياسي.

جاءت تسمية القوقاز أو القفقاس نسبة إلى جبال القوقاز ويتكون القوقاز من الدول السوفياتية السابقة مثل: جورجيا – أرمينيا – أذربيجان وهناك القوقاز الروسي الذي يتألف من الكيانات التالية: كراسنودار كراي- ستافروبل كراي – أديغيا- قراتشاي- تشيركيسيا – قبردينو/ بلقاري- الشيشان – إنغوشيا- أوسيتيا الشمالية- أوستيا الجنوبية- داغستان؛ وتسمى هذه المناطق بالقوقاز المسلم وتقع على حدود أوروبا الشرقية وتتبع روسيا الاتحادية وفيها تعدديه وتنوع عرقي وثقافي وغالبيتهم مسلمون من الطائفة السنية.

تحظى هذه المنطقة بمكانه وأهمية استراتيجية، وتعد من ساحات التنافس بين روسيا والصين من طرف، والولايات المتحدة  الأمريكية من طرف آخر لغنى المنطقة بمواردها الطبيعية، وعلى اعتبار أن هذه الدول والجمهوريات تدين بالإسلام لذا نراها تزخر بالحركات الأصولية  والمذهبية سيما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 وتأثر هذه المنطقة بالمد الفكري الجهادي (السلفي- الإخواني- الشيعوي) القادم من تركيا ودول الخليج العربية وإيران وأفغانستان وباكستان، ومع توجه بعض التنظيمات المتشددة إليها أضحت آسيا الوسطى  وجمهوريات القفقاس تربة صالحة وبيئة مثالية لنمو وانبعاث هذه التنظيمات التي تتبنى الجهاد العنفي، كما أن ضعف الديمقراطية وقلة التنمية الاقتصادية في تلك البلدان تسبب بتضاعف وتجذر الرشوة والفساد والبيروقراطية الأمر الذي زاد من غلواء الناس بالدين، وإن الإسلام هو الحل فتبنى البعض منهم الطرح السلفي الجهادي والذي يقوم على ثنائية الدم والبارود فاستشرى الإرهاب ونشطت تجارة المخدرات وبيع الأسلحة، وانعزال أتباع الفكر المتطرف عن ثقافاتهم المجتمعية؛ حيث يرى مفتي الديار الإسلامية في روسيا “…إن التطرف وثقافة الإرهاب والتوحش هي سمات وعلامات فارقة لسائر التنظيمات الأصولية والجهادية في بلادنا والتي يبدو أن  فصولها الدموية لن تنته قريباً…”، ويلاحظ المراقب السياسي البسيط الذي يعيش في روسيا الاتحادية أو في آسيا الوسطى أوفي القفقاس أنه أصبح للخوف حضورا طاغيا في حياة الكثير من المجتمعات بالتزامن مع سيادة وانتعاش ثقافة الكراهية إلى مستويات مقلقة للغاية؛ ففي جمهورية قبردينو/ بلقاري جرى استطلاع للرأي على سبيل المثال تبين أن 40% صوتوا لصالح الفكر الوهابي المتطرف والذي يمتلك ضخاً أيديولوجياً ودعائياً كبيراً وهذا لا يعني إلا أن قسماً لا بأس به من سكان آسيا الوسطى والقفقاس بات يلقى قبولاً لهذا الفكر المتزمت خاصة بعد انهيار النظام الاشتراكي العالمي من موسكو وبرلين إلى عدن وبوركينا – فاسو، حيث الإحباط الذاتي وعزوف الناس عن المطالعة وقراءة الفكر الفلسفي المتنور والانكباب على مطالعة كتب السلف للمفكرين الإسلاميين أو كتب ما يسمونهم بمفكري الصحوة الإسلامية.

سعت التنظيمات المتشددة بقيادة شامل باساييف لإقامة ما يسمى بإمارة القفقاس الإسلامية عام 2007م وكان مركز نشاطها العسكري بلاد الشيشان التي شهدت حربين واسعتين في العقدين الماضيين، لكن نظريتهم أخذت تبوء بالفشل رويداً رويداً كما أخذت قوتهم تتلاشى نوعاً ما سيما بعد تحييد قائدهم، ووقوف قسمٍ كبيرٍ من سكان المنطقة إلى جانب زعاماتهم المحلية كالقائد الشيشاني رمضان قديروف بعد مصرع والده على يد بعض الجماعات المتشددة حيث تم اتهام احد قادة هذه الجماعات ويدعى عمروف المدرج على قائمة الإرهاب الدولية بوقوفه وراء عملية الاغتيال.

بشكل عام يرى تنظيم القاعدة منطقة شمال القوقاز منبعاً للفكر السلفي والجهادي كما جاء في كتاب ألفه أحد قادته (أيمن الظواهري) تحت عنوان “فرسان تحت راية النبي.”، قد يفسر هذا الأمر العلاقات غير الودية بين سلطات البلدان القوقازية مع الحركات المتطرفة وغالباً ما تحدث صدامات دموية بينهم، فكل طرف يحاول بناء سلطة خاصة به، وهذا ما يؤثر سلباً على حياة المجتمعات المحلية ومسألة السلام الإقليمي في منطقة القوقاز وما حولها.

  • أبرز الجماعات المتطرفة في منطقة القوقاز.

هناك ضعف في عدد المراجع التي تناولت مسألة الحركات المتشددة في هذه المنطقة، ويمكن ذكر بعضاً من هذه الحركات التي كان لها دور في أعمال اتسمت بالعنف الدموي في بعض البلدان، منها:

إمارة شمال القوقاز التي تنشط بشكل أساسي في داغستان؛ وهناك كتيبة الخطاب، وإمارة القفقاس الإسلامية التي أسسها شامل باساييف اللتان تنشطان في الشيشان، هذه التنظيمات الثلاثة تعد جزءاً من ما تسمى بالحركة الجهادية العالمية التي تزعمها أسامة بن لادن وتلقت دعماً كبيراً من تنظيم القاعدة؛ وقد بايعت بعض التنظيمات تنظيم داعش الإرهابي كمجموعة أبو عمر الشيشاني الذي تبوّء منصباً قيادياً في دولة التنظيم المزعومة التي أعلن عنها في سوريا والعراق، وينشط العشرات ممن يسمون بالمجاهدين القوقاز في الأزمة السورية وخاصة في منطقة إدلب تحت مظلة هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) ويعتبرون من المؤيدين لتنظيم القاعدة.

وتتمحور العقيدة السياسة لهذه التنظيمات حول إقامة إمارة إسلامية على غرار الدولة الإسلامية التي أقامها تنظيم داعش أو حركة طالبان قبل الغزو الأمريكي لأفغانستان، ويعتبرونها مصدراً لحل جميع مشاكل السكان وحتى العالم عبر تطبيق الشريعة الإسلامية إلا أنهم لا يمتلكون تصورات عن حجم التطورات التي لحقت بالاقتصاد العالمي والتغير المناخي والتدهور البيئي ومدى التطور التكنولوجي، أما عقيدتهم العسكرية فتتمحور حول استثمار الجغرافيا العسكرية لداغستان والشيشان حيث الغابات والجبال قاعدة لتنظيم نشاطاتهم مع التركيز على الجهاد العنفي لإقامة إمارة إسلامية وقتل كل من يخالفهم سواء أكانوا مسلمين أو غيرهم، وكذلك إرهاب أعدائهم المفترضين وعلى رأسهم روسيا الاتحادية عبر تنفيذ عمليات تفجير وقتل عشوائية، فمثلاً قامت كتيبة الخطاب التي شنت العديد من الهجمات العالية المستوى كالتفجير الانتحاري في قطار موسكو في عام 2004 وفي عام 2010 وتفجير الخط الحديدي السريع الذي يربط موسكو بسانت بطرسبورغ عام 2007 حيث أخرج القطار عن مساره وكذلك في حافله في فولغاغراد عام 2013 وفي مسرح – تياتر- بموسكو 2002 وحصار مدرسة بيسلان عام 2004 والهجوم الانتحاري على مطار – دومو ديدو فو- عام 2011 وتفجير  مترو الأنفاق في موسكو وتفجيرات أوسيتيا وغيرها؛ وإلى اليوم تشهد القفقاس هجمات مباغته ضد الشرطة المحلية والقوات الاتحادية كما يتم أحياناً استهداف كبار المسؤولين في الدولة وبحسب معطيات الاستخبارات والهيئات الأمنية المحلية والروسية يتواجد في داغستان حوالي ثلاث عشرة (13) جماعة مسلحة يتمركزون في الجبال والغابات، ويتم التعامل معهم بأسلوب عسكري عنيف.

  • الموقف الروسي من الجماعات المتطرفة.

تحاول السلطات المحلية في بلدان القفقاس وبالتعاون مع الحكومة الروسية وضع حدٍ للفكر المتطرف، ولجم تمددها؛ وذلك في إطار منظمة معاهدة الأمن الجماعي([1]) لذلك تبقى روسيا القوة الفاعلة الرئيسية في مواجهة هذه الجماعات ليس في القفقاس وحدها وإنما في بلدان آسيا الوسطى التي لا تزال على علاقة طيبة معها خاصة كازاخستان التي نجت خلال عام 2022م من تمرد قاده الجماعات المتطرفة الكازاخية بفضل روسيا حيث ترددت الأخبار عن عمليات قطع رؤوس للجنود وتدمير وحرق الكثير من المنشآت الحيوية ودلت خبراتهم الفنية في استعمال السلاح والقنص والهتافات المدوية أنهم تلقوا تدريبات مكثفة في الخارج، وتعاني الدول الأخرى كقرغيزيا التي تنشط فيها كتيبة التوحيد والجهاد الدموية والتي فجرت عدة سيارات مفخخة ومحاولة تفجير السفارة الصينية وتفجير مئات القنابل في مراكز الشرطة المركزية وتفجير مترو سانت بطرسبورغ في نيسان 2017 وأسفر الانفجار عن مقتل (14) شخصاً وجرح أكثر من (50) آخرين وفي ذروة تصاعد نفوذ داعش انضم حوالي (900) إرهابي من قرغيزيا إلى تنظيم داعش الإرهابي وأغلبهم من مقاطعات الجنوب القرغيزي ومقاطعة – أوش وباتكن، وكذلك أوزبكستان التي تنشط فيها ما يسمى بمنظمة الجهاد الإسلامي، وطاجيكستان التي نجت من أزمة دموية داخلية عام 1992م تسببت بوقوع حوالي مئة ألف قتيل كان الطرف المناوئ للسلطة حزب النهضة الإخواني في دوشانبي إلى أن تسلم إمام علي رحمن زمام السلطة وأعاد الأمور بجهد جماعي إلى نصابها؛

تحظى هذه الجماعات المتشددة بأهمية كبيرة في العقيدة الأمنية الروسية، حيث تعتبرها روسيا تهديداً لأمنها القومي وخاضت ضدها حرباً دموية خاصة في الشيشان وداغستان وتسببت بخسائر بشرية ومادية كبيرة لكلا الطرفين، ومع تسلم فلاديمير بوتين القيادة الروسية اتبع استراتيجية تعتمد على الحرب الهجينة والاستخبارات للقضاء على هذه الجماعات، ويبدو أن هذه الاستراتيجية نجحت بشكل نسبي بدليل تضاؤل عدد العمليات التي تشنها هذه الجماعات ضد البلدان المناوئة لها وتمكن الأمن الروسي من إلقاء القبض على العشرات منهم، ويبدو أن دول منظمة معاهدة الأمن الجماعي لم تكتف بمواجهة هذه الجماعات فقط في بلدانها بل لحقت بهم إلى سوريا حيث كانت الضربات العسكرية الروسية العنيفة تتركز بدرجة كبيرة على مناطق تواجد المجاهدين القوقاز في الجنوب السوري ومناطق إدلب وريف اللاذقية، ولا تزال الحكومة الروسية تتمسك بشرط تصفية هذه الجماعات في أية تسوية بين النظامين السوري والتركي. كما وتشير بعض التقارير الإخبارية إلى نشاط لهذه الجماعات في الحرب الروسية- الأوكرانية في معارك الدونباس خاصة أن منطقة البلقان بدورها كانت قد شهدت نشاطاً جهادياً في فترة التسعينات.

ومع تضييق الخناق على هذه الجماعات باتت معظمها تفضل الهجرة إلى مناطق أخرى تشهد بؤر توتر طائفي أو ديني خاصة في سوريا والعراق وأفغانستان، خاصة في صفوف داعش حيث كثيراً ما تتردد الأخبار عن وجود مقاتلين أوزبك وكازاخ وشيشان وداغستان وإيغور بين صفوف التنظيم.

  • أخيراً.

بلا شك الفكر الإرهابي المتطرف وبحكم التجربة التي عاشتها الكثير من المجتمعات يعد فكراً منحرفاً عن معايير العدالة الإنسانية والعقلانية، وأصحاب هذا الفكر لا يتقبلون الآخر المختلف معه ويرون فيه عدواً وخصماً مبيناً، وهذا يؤدي بالضرورة إلى إلغاء الحوار والاختلاف والاجتهاد بل يُعطل آفاق الفكر وفعالية العقل ومدارات البحث والاستقصاء؛ وهناك المئات  من مراكز الترويج للتعصب والتطرف ومثيري الشغب ذات العلاقة القوية بمراكز الإرهاب العالمي، قد يفسر هذا الأمر استمرار تدفق المقاتلين والتمويل إلى الجماعات المتشددة. لمواجهة هذا الأمر تحاول بعض السلطات المحلية في القفقاس تنسيق جهودها حيث استضافت (مايكوب) عاصمة أديغيا القفقاسية في الآونة الأخيرة مؤتمراً لمكافحة التطرف الديني والعرقي، هذا وقد تناول المؤتمر الأسس النظرية والمنهجية لمكافحة التطرف المستشري في شمال القفقاس وتطوير عملية وعي وثقافة التآخي والتسامح والتصدي لهذا الطاعون الذي يبذر الردى وخاصة بين الشباب؛ وقد شارك في المؤتمر ممثلون عن مختلف جمهوريات شمال القفقاس ومن موسكو وسانت بطرسبورغ و سامارا ومن مناطق روسية أخرى، حيث أكدوا جميعاً على ضرورة محاربة وتصفية هذه الجماعات؛ ويبقى الاقتصاد الضعيف وغياب مبادئ الديمقراطية والطبيعة الجبلية واستمرار خطاب الكراهية على مواقع التواصل الاجتماعي والترويج للأيديولوجيات المتطرفة القادمة من الشرق الأوسط وأفغانستان، وازدياد الاهتمام الدولي بالمحيط الجيوسياسي الروسي والتي تحتل مكاناً مهماً في معادلات التنافس الإقليمي والدولي، من أبرز المصادر التي تُنمي قوة هذه الجماعات وازدهار أفكارها، مع وجود احتمال في حال تصاعد نشاطها مجدداً بتكرار مأساة غروزني في أي منطقة مرشحة لهذا التصعيد.

[1] منظمة معاهدة الأمن الجماعي (CSTO) وتعرف أيضاً باسم ميثاق طشقند أو معاهدة طشقند؛ تأسست بتاريخ 15 أيار عام 1992م ودخلت المعاهدة حيز التنفيذ في عام 1994م. وهي تحالف عسكري حكومي دولي في أوراسيا يضم دول ما بعد الاتحاد السوفيتي. تعود أصول المعاهدة إلى القوات السوفيتية المسلحة، والتي حلت محلها تدريجيًا القوات المسلحة المتحدة لرابطة الدول المستقلة، والدول الموقعة على ميثاقها هي: روسيا، وأرمينيا، وكازاخستان، وقيرغيزستان، وطاجيكستان، وأوزبكستان، وأذربيجان، وبيلاروسيا، وجورجيا. انسحبت منها عام 1999م كلاً من أذربيجان وجورجيا وأوزبكستان….

زر الذهاب إلى الأعلى