داعش واستمرار الاندحار

في مثل هذا الشهر من عام 2019م اندحر تنظيم داعش الإرهابي في آخر معاقله في الباغوز كنتيجة لعدائه لمختلف الثقافات العالمية؛ ويعد هذا التنظيم بمثابة حالة مكثفة من الفكر المتطرف المعتمد على العنف الدموي، ولم يستطع من خلال أيديولوجيته كسب تعاطف المجتمعات المحلية التي خضعت لسيطرته، بل انفضت عنه في أول فرصة سنحت لها ولجأت إلى بر الأمان في شمال وشرق سوريا. ويحاول قادة التنظيم لملمة فلولهم، وتنفيذ عمليات انتقامية لإثبات وجودهم، إلا أن هذه العمليات تهدد وجوده بدرجة أكبر عبر استنزاف طاقته وتسببها بنفور المجتمعات المحلية أكثر عنه وازدياد تكاتفها مع قسد والإدارة الذاتية، وهذا ما ساهم في إلقاء القبض على المزيد من عناصره كما حصل في حملة صاعقة الجزيرة التي باشرتها قسد وقوى الأمن الداخلي بدعم من العشائر المحلية والتحالف الدولي في أواخر العام المنصرم وبداية العام الجديد، حيث تم اعتقال العشرات من المرتزقة وقادتهم وضبط العديد من مخازن السلاح العائدة للتنظيم؛ كما يبدو أن التنظيم كان يخطط لشن عمليات إرهابية- دموية في مدن المنطقة انطلاقاً من الريف وبدعم من استخبارات النظامين التركي والسوري في ذكرى اندحاره؛ وعلى الرغم من انتهاء حملة صاعقة الجزيرة لا تزال المنظومة الأمنية الداخلية في شمال وشرق سوريا في حالة استنفار كامل تحسباً لعمليات إجرامية أخرى كونها تتزامن مع تصاعد تهديدات النظامين ضد المنطقة. بشكل عام لم يعد قادة داعش بعد الهزائم والخسائر التي تكبدوها يمتلكون استراتيجية واضحة لاستجماع قوتهم مجدداً، وبات ينظر إلى تكتيكاته الهجومية كسلوك طائش ومتهور يهدد الأمن الإنساني للمجتمعات؛ وهذا ما سيتسبب بتلاشي جاذبية أيديولوجيته لدى الكثيرين، وما سيسرّع من هذا التلاشي أيديولوجية هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة) الإرهابية التي تعمل على الاستفادة من تجربتي داعش وطالبان (اتفاقية الدوحة) لتعزيز سياستها الدفاعية وتحقيق استراتيجيتها في السيطرة في كامل المنطقة الواقعة غربي نهر الفرات بما فيها حلب لإقامة إمارة إسلامية سنية غير مغضوب عليها؛ إلا أن ما يهدد هذه الاستراتيجية هي حليفها النظام التركي بسبب عدائه التاريخي مع الحركة السلفية المنادية بالخلافة العربية، وبنفس الوقت لا يستطيع مرتزقته من الإخوان المسلمين وداعش إدارة المناطق المحتلة وتحقيق الاستقرار فيها لصالحه على غرار فشلهم في مصر وتونس وليبيا، وبنفس الوقت يعتبر هذا النظام كما النظام السوري قسد عدواً استراتيجياً له؛ لذلك يجد التصالح مع النظام السوري أفضل الحلول المناسبة له ولكن بشروطه، فهو يريد إطالة أمد الأزمة وتقليل تأثيرها على الداخل التركي ومجاله الحيوي وأجنداته، من خلال إخراج قضية اللاجئين والمرتزقة إلى الداخل السوري وبشكل قريب نسبياً من المناطق الحيوية للنظام، وبنفس الوقت إضعاف قوة الكرد في مقاومة عمليات الإبادة واستمرار معاناة المجتمعات العربية ليسهل إبادتها لاحقاً إذا ما نجحوا في إبادة الكرد بعد أن كانوا قد نجحوا في إبادة الأرمن وتعويم العنصر التركي المتأدلج قوموياً؛ أي لا تريد تركيا إنهاء الأزمة ولكنها تريد استمرارها خارج مجالها الحيوي وبقائها داخل الحدود السياسية السورية. من العوامل المعيقة لهذه الأجندات الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة؛ حيث تمتلك الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها استراتيجية خاصة بهم تتمثل بعض جوانبها بتعزيز هيمنة القوة الناعمة الأمريكية في المستوى المحلي، والبحث عن قوة موازنة أو كابحة لتمدد الفكر المتطرف العنفي، الديني والقومي، وتعد الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا أفضل خيار إلا أنها حتى هذه اللحظة لم تعترف رسمياً بها على الرغم من فتح قنوات دبلوماسية معها والتعاون العسكري والأمني مع مؤسساتها الرديفة؛ وعلى المستوى الإقليمي من مصلحة أمريكا كبح جماح تركيا وإيران في التحول إلى قوى دولية منافسة لها، وحصرها كقوى إقليمية متنافسة، وموازنة قوتها بالشكل الذي لا يهدد مصالحها الاقتصادية واستراتيجيتها العسكرية العالمية، على المستوى الدولي تعمل على إفشال مشاريع خصومها في الهيمنة على المنطقة وكبح تنامي قوتهم الاقتصادية والعسكرية وقوتهم الناعمة؛ هذه السياسية بدروها قد تشكل متنفساً لداعش للبروز مجدداً باستغلال التناقضات السياسية الدولية والإقليمية بعقد صفقة أخرى مع النظام التركي أو الإيراني أو السوري الذي يشتركون معا في العداء للشعب الكردي ولمبادئ الديمقراطية، إلا أن أجنداتهم المتناقضة فيما بينها، وتعارضها مع أجندات الدول الأقوى ينذر بفشل عملياتهم التآمرية والتسبب بمزيد من الأذى للمجتمعات المحلية.

لم يعد الكثير من المتعاطفين يلبون نداء الجهاد الذي يطلقه قادة التنظيم، فقد أثبت عدم قدرة داعش على الحفاظ على سلطته، كما أن مشروع دولة الخلافة الإسلامية التي روّج لها قد عفى عليه الزمن، ولا يستطيع إدارة شؤون الشعوب بحسب معايير العصر؛ ويستحيل خلق واقع سياسي/اجتماعي/اقتصادي مشابه للواقع الذي كان قبل 1400 سنة كونه من طبائع معظم البشر البحث عن المزيد من المعرفة لتسخيرها في عملية الحفاظ على وجودهم وإدارة أفضل لشؤونهم وتطوير أسلوب حياتهم. لقد فشل في تأسيس ثقافة مجتمعية مؤطرة بأيديولوجيته، ولم يستطع إقناع غالبية مؤيديه بالاستمرار معه، ولم يتمكن من تحييد القوة الثقافية المضادة له، ما يشير إلى هذا الأمر انخراط المجتمعات التي كانت تخضع لسلطته في إدارة شؤونها وفقاً لقوانين الإدارة الذاتية وقيام الآخرين في المناطق الخاضعة للنظام بالانضمام إلى حملات التسوية الأمنية أو اللجوء إلى مناطق الإدارة الذاتية، ورجوع البعض الآخر إلى حضن حزب البعث المناقض في علمانيته لأيديولوجية التنظيم، واستمرار المتواجدين في المناطق المحتلة في عملية الارتزاق لصالح النظام التركي.

على الرغم من كل ما تم ذكره يرفض التنظيم حقيقة فشله وزيف أساطيره، ويحاول الاستمرار في الحياة باستغلال تداعيات التدهور البيئي وتناقضات التطرف الطائفي، السني والشيعي، والجماعات القوموية التي يصعب التعايش فيما بينها بموجب ميثاق اجتماعي أو وطني والتي أصبحت عوامل رئيسية لأزمات المنطقة، ولم تعد تصلح أيديولوجياتهم كعقيدة قتال تضمن الحماية الذاتية للشعوب؛ وكذلك استغلال أجندات بعض القوى الإقليمية الساعية للهيمنة على المنطقة في رسم مخططاتها الإرهابية؛ فالتنظيم يستمد طاقته من الفقر والأمية والفساد والدعاية السوداء للقوى المعادية للإدارة الذاتية؛ ويطرح أيديولوجيته كيوتوبيا لحل مشاكل البشر؛ ويبقى تحقيق السلام والتنمية الاقتصادية وتطبيق مبادئ الديمقراطية أفضل وسيلة لدحر التنظيم بشكل نهائي، ويتحمل المجتمع الدولي مسؤولية هذا الأمر بتقديم المزيد من الدعم للإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا وحل الأزمة السورية بشكل عادل.

زر الذهاب إلى الأعلى