النووي الإيراني بين الحل الدبلوماسي والاستهداف

بعد وصول مباحثات الملف النووي الإيراني المنطلقة من فيينا إلى طريق مسدود في الآونة الأخيرة بين كل من الغرب من جهة وإيران من جهة أخرى بفعل عدد من الأسباب والتطورات التي ترافقت مع بوادر توقيع هذه الاتفاقية لعل أبرزها؛ رغبة طرفي المفاوضات في فرض أجنداته على حساب الطرف الآخر، فمثلا إيران كانت ترغب لرفع العقوبات المفروضة عليها بشكل مؤثر، وأخذ ضمانات وتعهدات من أمريكا لعدم انسحابها مجددا كما فعل ترامب عام 2018م، كما إنها تهربت من التحقيقات التي سعت لإجرائها الوكالة الدولية للطاقة الذرية في أماكن يشتبه بأنها شهدت أنشطة نووية،بالإضافة إلى تشبثها برفع اسم الحرس الثوري الإيراني من قائمة الإرهاب والعقوبات الأمريكية،والتي بدورها طالبت بتوسيع الاتفاقية النووية لتشمل برنامج إيران الصاروخي ونفوذها الإقليمي ودعمها للميلشيات التي تهدد أمن القواعد الأمريكية في المنطقة وكذلك آمن حليفتها إسرائيل، ناهيك عن تأثير عوامل أخرى كبروز الحرب الروسية- الأوكرانية ودعم طهران العسكري المتزايد لروسيا، وإمدادها بطائرات مسيرة وخبراء عسكريين الأمر الذي أثار امتعاض الغرب من هذا الدعم، إلى جانب ضغط اللوبي الإسرائيلي(كإيباك) السياسي والاستخباراتي المكثف على الكونغرس الأمريكي لحثه على عدم توقيع الاتفاقية مع إيران، إلا في حالة واحدة وهي تفكيك شبه كامل للبنية التحتية النووية المدنية الإيرانية،وأخذ ضمانات من الغرب بتخليها عن فكرة إيران نووية، وما زاد من صعوبة التوصل إلى اتفاق بين الطرفين الاحتجاجات المندلعة في إيران، واتهام الأخيرة لإسرائيل وأمريكا بالوقوف خلفها.

على الرغم من توقف المباحثات بين الطرفين(إيران وأمريكا) في الوقت الحالي،إلا أن هناك محاولات ورغبة علنية من قبل الدول الأوروبية وحتى أمريكا في الوصول إلى اتفاق عن طريق القنوات الدبلوماسية وتفادي الصدام المباشر معها بخصوص ملفها النووي، لذلك لم تنقطع العلاقات بشكل رسمي بين أطراف الاتفاق بل بقيت معلقة،ولكسر ذلك الجمود قامت الوكالة الدولية للطاقة الذرية بزيارة لطهران في الخامس من آذارحيث “أكد فيها الجانبان أن مثل هذا الانخراط الإيجابي يمكن أن يمهد الطريق لاتفاقيات أوسع بين الدول الأطراف”، لذا قد تتوصل إيران وأمريكا لاتفاقية جديدة بمبادرة من الدول الأوروبية خاصة أن واشنطن تصر على معالجة هذه المسألة سلمياً،وما يشير إلى ذلك تصريحات مسؤوليها؛ فمثلا وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن صرح “بأنَّ واشنطن لا تزال ترى أن الدبلوماسية هي الطريقة الأكثر فاعلية للتعامل مع الملف النووي الإيراني مع قناعة الرئيس الأميركي جو بايدن أيضاً بذلك”، هذه المقاربات تبين بأن القيادة الأمريكية ستتعامل مع هذا الملف حتى اللحظات الأخيرة بالطرق الدبلوماسية، على الرغم من أن حملة “الضغط الأقصى” التي شهدتها سنوات ترامب باءت بالفشل، ولم تحقق مبتغاه للحد من الأنشطة النووية الإيرانية، وإجبارها على القبول بالأجندات الأمريكية بل على العكس زادت طهران من تخصيب اليورانيوم إلى مستوى يقرّبها من صناعة سلاح نووي الأمر الذي يثير ذعر إسرائيل وقيامها بالتحضير وعلى مختلف الأصعدة للتعامل مع هذه المسألة الخطيرة والتي تعتبرها بمثابة تهديد وجودي لدولتها، لذلك قامت وتقوم بحملات دبلوماسية مكثفة إلى الدول الأوروبية والعربية وبالتأكيد لأمريكا في محاولة منها لتشكيل تحالف جماعي هدفها استهداف والقضاء على النووي الإيراني كونها بحاجة إلى الاتحاد الأوروبي وأمريكا لمواجهة التهديدات الاستراتيجية التي تشكلها إيران لها، وللتقليل من المخاطر التي تنطوي عليها ملفها النووي، وتطمينها قام كل من جو بايدن بزيارة إلى إسرائيل في تموز من العام الفائت، وتوقيعه لإعلان القدس بشأن الشراكة الاستراتيجية، “والذي يتضمن التزاماً أمريكيا بعدم السماح لإيران وبشكل مطلق بامتلاك سلاح نووي والتصدي لأنشطتها في المنطقة لا سيما تلك التهديدات الموجهة لإسرائيل”، ولتعزيز هذه الشراكة والإعلان الموقع قام كل من وزير الدفاع الأمريكي ديفيد أوستن ورئيس هيئة الأركان الأمريكي مايك ميلي بزيارة إلى تل أبيب لنفس الأمر.

يبدو أن هذه المسألة أحدثت توتراً كبيراً في العلاقة الأمريكية- الإسرائيلية في الفترة المؤخرة في ظل اختلاف الرؤى بين الطرفين بخصوصها، لذلك تعمل الدولتان وعبر اللقاءات الدبلوماسية المكثفة إيجاد صيغة مشتركة، ووضع خطة لاستهداف وتعطيل النووي الإيراني في حال عدم نجاح المفاوضات بين الطرفين، لذلك قد يلجآن بشكل مشترك بشن هجمات سيبرانية محكمة، أو ما تعرف بعمليات التخريب السرية  ضد برنامجها، وفي حال تعذر ذلك قد توجهان ضربة عسكرية للمواقع النووية الإيرانية وتدمير معظمها وإعادتها لعشر سنوات إلى الوراء، إلا أن هذا السيناريو قد يجر المنطقة إلى صراع مباشر بين إيران وأمريكا الأمر الذي ترفضها الأخيرة، ويمكن تلمس ذلك من تصريحات بايدن بأنه لا يسعى إلى صراع مع إيران كون أي ضربة عسكرية قد تتسبب بإقفال مضيق هرمز بواسطة الألغام، وبالتالي التسبب بأزمة اقتصادية دولية واسعة، لذا تحاول أمريكا إيجاد بدائل أخرى كتلك التي تعرف باستراتيجية الردع العسكري وذلك عن طريق المناورات العسكرية التي أجرتها مؤخرا مع إسرائيل بمشاركة 6500 جندي أمريكي وأسلحة استراتيجية نووية والتي كانت تحاكي بحسب القادة الإسرائيليين بأنه سيناريو عملياتي بعيد المدى ورحلات جوية طويلة المدى في إشارة مستترة إلى إيران لإرغامها على وقف برنامجها النووي أو تحفيزها لتوقيع الاتفاقية فوق الشروط الإسرائيلية- الأمريكية.

 التردد الأمريكي في معالجة الملف النووي الإيراني ووصولها إلى مستوى إنتاج قنبلة نووية خلق حالة من القلق والهيجان لدى الإسرائيليين الذين أعلموا كلا من واشنطن وبرلين وباريس بأنها ستتصرف بمفردها في ظل عدم وجود إرادة دولية مشتركة، لذا قد تعقد تفاهم مع أذربيجان كي تنطلق من مطاراتها لشن هجمات على المواقع النووية الإيرانية، إلا أن كافة القراءات العسكرية تؤكد وترجح بأنها لن تستطيع منفردة القيام بذلك، وهي بحاجة إلى مساعدة تقنية وعسكرية أمريكية كون هناك بعض المنشآت الإيرانية الحساسة التي جرى بناؤها تحت الأرض أو في أقبية حفرت تحت الجبال مثل منشأة قم وفوردو لتخصيب اليورانيوم ومواقع سرية لم يتم التعرف إليها من قبل أجهزة الاستعلام الدولية، ويتطلب تدميرها إلى أم القنابل الأمريكية التي تستعمل بشكل خاص لمثل هكذا عمليات خطيرة ومعقدة، كما أنها بحاجة إلى ناقلات جوية من طراز KC-46 لتزويدها بالوقود جوا، لذلك فهي غير قادرة في الوقت الحالي على استهداف المواقع النووية إذا لم تتسلم هذه الأسلحة الاستراتيجية التي تسعى للحصول عليها مبكرا لتنفيذ وعودها. هذا وفي نفس السياق يعتقد العديد من الخبراء السياسيين والعسكريين الإسرائيليين بأن الموقف الأمريكي الحالي تجاه الملف النووي الإيراني ذو طبيعة خطابية أكثر من كونه حقيقية،الأمر الذي خلق انطباعاً لديهم بأن هذا الموقف سيقود في نهاية المطاف إلى امتلاك إيران لسلاح نووي خاصة أنها أصبحت تمتلك دراية نووية، وقد حذر من هذا السيناريو وزير الدفاع الإسرائيلي السابق  إيهود باراك قبل عقد من الزمن عندما كان يجتمع مع كبار المسؤولين في إدارة أوباما حيث قال لهم”تقولون إن هناك وقتاً للتعامل مع هذه المسألة، ولكنني أخشى أن يستمر ذلك يتردد على مسامعنا حتى يُقال لنا: لقد فات الأوان ولم يعد بوسعنا أن نفعل شيئاً وعلينا التعايش مع الأمر”.

استنادا على ما سبق قد تستمر الدبلوماسية في التوصل إلى اتفاق لإعادة إيران إلى الامتثال لقيود خطة العمل الشاملة المشتركة على برنامجها النووي، فبالنسبة لطهران فإن احتمال تخفيف العقوبات على الاقتصاد الإيراني الذي يعاني من ضغوط شديدة يوفر الدافع للوصول إلى خطة العمل الشاملة المشتركة، هذا ويبقى استهداف النووي الإيراني على الأقل في الوقت الحالي من الاحتمالات المستبعدة كون لا يوجد هناك إرادة دولية مشتركة وهناك دول متعاطفة مع إيران كالصين وروسيا بخصوص هذه الملف وهي أطراف رئيسية في هذه الاتفاقية، إلى جانب عم قدرة إسرائيل منفردة في استهدافه كما فعلت مسبقا(بموقع تموز والكبّر) لأسباب تم ذكرها، هذا وقد تنزلق المنطقة إلى نزاع إقليمي في حال استهداف النووي الإيراني بين كل من إيران ووكلائها وإسرائيل خاصة مع تصاعد حرب الظل بين الطرفين، واحتمالية امتداد شرارتها إلى الأراضي السورية التي تشهد حالة توتر كبيرة في ظل الاستهدافات المتكررة لإسرائيل، لذلك لا يمكن استبعاد أن تحصل مواجهات برية مباشرة بين القوات الإسرائيلية والميلشيات الإيرانية وبالأخص في مناطق التماس بين الطرفين،التي قد تتدخل فيها أمريكا لصالح إسرائيل عبر شن حملة برية ضد الميلشيات الإيرانية في ظل وجود ترتيبات لمثل هكذا حملات ما من شأنه أن يتسبب بضرب حالة الأمن والاستقرار النسبي لمناطق شمال وشرق سوريا في حال تصاعد النزاع العسكري بينهم.

يبدو أن مسألة الملف النووي الإيراني مرتبط بشكل كبير بالتطورات الإقليمية والدولية التي تتجه نحو منعطف خطير مع ازدياد  بؤر التوترات العالمية والتنافس الجيوسياسي بين القوى الكبرى، وتعزيز كل طرف لقواته وتكتلاته وظهر ذلك جليا في التدريبات العسكرية الثلاثية بين كل من إيران وروسيا والصين في بحر العرب والتي استمرت لمدة خمسة أيام علما أن هذه الدول مختلفة أيديولوجيا، إلا أن الضغوط الغربية عليهم ساهمت في تقارب هذا الدول خاصة مع قيام الغرب بتكثيف ضغوطاته على الدول الثلاث المذكورة ودعم الدول التي تضمر لهم العداء الشديد (أوكرانيا وتايوان وإسرائيل)، كل هذه التطورات والمستجدات الدراماتيكية توحي بأن الملف النووي الإيراني سيبقى معلق في الفترة المقبلة كما هو عليه الآن لحين بروز تطورات إقليمية ودولية جديدة تعجل من استهداف الملف النووي الإيراني أو حله بالطرق الدبلوماسية.

زر الذهاب إلى الأعلى