تركيا من رأس للعالم الإسلامي إلى ذيل للعالم الغربي

تعتبر الإمبراطورية العثمانية هي آخر ممثل رسمي للخلافة الإسلامية، وذلك بعد سقوطها على يد العالم الغربي المسيحي بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، اما تركيا الحديثة والتي أنشئت بعد معاهدة لوزان فيمكن اعتبارها دولة منبثقة من عباءة العثمانية وليست الوريث عنها، مثلها مثل جميع دول المنطقة التي أنشئت بعد انهيار الإمبراطورية التي دامت أكثر من خمسمئة عام، فالعمر الافتراضي لنشوء الدولة القومية بشكلها الحالي لا يتعدى القرن أو اكثر بقليل، الدولة القومية التي حرم منها الكرد اولاً والفلسطينيين ثانياً، فانه يبدو وكما يتوضح للعالم وبعد تسريب خارطة الشرق الأوسط الجديد بعد الإطاحة بالبعث العراقي ورئيسها صدام حسين مع مطلع القرن الحالي وبالتحديد في نيسان العالم 2003م، كنوع من الجائزة الطردية لإسكاتهم والخروج بدول جديدة ضعيفة اقتصادياً وسياسياً. أو ربما يكون لخلق كردستان هو البداية لخلق إسرائيل الكبرى في المنطقة كما يحلو للبعض تحليلها على المدى البعيد.

مع انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1990م بدأت الولايات المتحدة الامريكية بأخذ مجدها في إدارة العالم، فكانت بداية سياسة القطب الواحد حيث كانت ساحة الشرق الأعلى والأوسط والأدنى هي الساحة الأهم بالنسبة لهم وذلك في خلق للأزمات وإدارتها بالطريقة التي تفضل في الوصول إلى النتائج المرادة لهواهم وسياساتهم الاستراتيجية، وتبين ذلك جلياً في احداث أيلول 2001م في الولايات المتحدة وانهيار البرجين لمبنى التجارة العالمي والتي كانت بمثابة الشرارة الأولى لحربها ضد ما أصبح يعرف بالإرهاب كمصطلح وخلق أعداء ومحاربتهم على هذا الأساس، فبعد الانتهاء من السوفييت كان لابد من خلق عدو ليكون الحجة لهم في التدخلات العسكرية، وأيضاً خلق حالة فصل ما بين الأيديولوجيات الممتدة من الاتحاد السوفيتي للصين لكوريا الشمالية وهكذا، والفصل ما بينهم بإسلام سني في أفغانستان وشيعي في إيران وهندوسي في الهند، فبدأت حرب أفغانستان في عام 2001م وايصال حزب العدالة والتنمية لسدة الحكم في تركيا عام 2002م وذلك لخلق نوع من التوازن في الإسلام وشقه إلى أنواع وتسميتهم وفرزهم تحت مسميات سياسية كالمتشددين والأكثر شدة وتطرفاً، والإسلام المعتدل، والإسلام اللا سياسي والعديد من المصطلحات التي زادت في شرخ المجتمع المدني الإسلامي على وجه الخصوص، بالإضافة إلى خلق حالة مضادة للإسلام المتشدد المتمثل في إيران والتي تسبب نوعاً من القلاقل لإسرائيل بالمشاركة مع التيار العروبي القومي المتزمت، إن التطورات التي حصلت في تركيا بعد وصول أو بلغة أصح إيصال حزب العدالة والتنمية كانت تتضمن خطط استراتيجية لإدارة المنطقة والحد من التمدد الروسي (الذي يرى في نفسه تمدداً للاتحاد السوفياتي سابقاً) المنفتح حديثاً على المنطقة.

يرى السيد عبد الله اوجلان في هذا السياق وفي قراءة تحليلية لهيكلة الجمهورية التركية الحديثة ووصول حزب العدالة والتنمية لقيادة الحكم وقيادة البلاد ما يلي: “حزب العدالة والتنمية الذي شكل علي يد ثالوث أمريكا- إنكلترا- إسرائيل بغية خدمة مصالح الهيمنة لهذا الثالوث بالتحديد في منطقة الشرق الأوسط، يطالب بمضاعفة حصته مقابل خدمة تلك الهيمنة. والسبيل إلى ذلك هو تخفيف وطأة الجيش عليه، وعدم حياكة انقلابات جديدة ضده، ومضاعفة حصته من كعكة الاستغلال المتسلط على الشرق الأوسط”.

يفهم من التحليل السابق أن مدى رضى الدول الراعية هي التي تحدد مدى بقاء وديمومة الحكم وإطالة عمره، هنا لا نقصد فقط شخص الرئيس التركي أردوغان إنما المقصود هنا هو الفكر والايدولوجية والعقلية التي تحكم، حيث بدأ التقارب التركي مع جميع دول الجوار والدول الإقليمية والإسلامية وأصبحت تركيا تخطو الخطوات كما هو مرسوم لها بدقة وحرفية فأصبحت خلال فترة زمنية قصيرة، في أعلى هرم أقوى الدول الإسلامية، أو هكذا تبين وأصبح متعارفاً عليه على أقل تقدير في وجه الشارع الإسلامي البسيط، وبدأت بعض المواقف التي تظهر في الإعلام وكأنها أمجاد وانتصارات لرأس العالم الإسلامي على حساب اليهود والمحتل والغاصب للأراضي وإلى ما هنالك من شعارات ولعب بعواطف وشعور المواطن العربية والإسلامي، وتبين ذلك في انسحاب الرئيس التركي من حدى جلسات منتديات دافوس بحجة دفاعه عن الفلسطينيين في وجه الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز وعدم إفساح المجال له بالتحدث وتخصيص وقت أقل له، وتتالت بموقف إرسال سفينة الحرية إلى غزة لكسر الحصار الإسرائيلي على القطاع، كإظهار على أنه أسد الإسلام عموماً والسنة خصوصاً.

مع بداية انطلاق ما بات يعرف بالربيع العربي الذي اجتاح المنطقة بدأ أردوغان مبكراً باللعب على الأوتار الحساسة واتباع سياسة التوازنات الدولية والإقليمية لكسب أكبر عدد ممكن من المكاسب السياسية، كما وإنه انتهج مبدأ اللعب بالعواطف واستمالة عواطف الشعب إلى جانبه، وذلك بهدف خلق حالة من السلطنة لنفسه وإمكانية استرجاع هيبة الإمبراطورية العثمانية في المنطقة وترسيخ صورة السلطان لشخصه في ذهن المواطن التركي أولاً وصورة خليفة المسلمين في ذهن الإنسان المسلم ثانياً، والتركيز على العالم الإسلامي وذلك بهدف خلق جو من الشعور بالرضى عن القيادة الجديدة للعالم الإسلامي، فكما هو معلوم بأن نهج أردوغان هو قيادة العالم الإسلامي بدعم من جماعة الإخوان المسلمين، فساند الجماعة ودعمها في مصر والمتمثلة في شخص الرئيس محمد مرسي، وفي تونس متمثلة في حركة النهضة والغنوشي، وفي ليبيا متمثلة في فايز السراج، اما في سوريا فقد استضاف حركة حماس ومكاتبها بعد وقوف الأخيرة إلى جانب ما بات يعرف بالثورة السورية، وأيضاَ حركة الإخوان المسلمين السورية والمتمثلة في بعض قياداتها التي تسلطت على مفاصل القيادات داخل الثورة.

في الانتخابات الأخيرة التي جرت في تركيا كان من الواضح بمكان مدى الشرخ الحاصل داخل الشارع التركي ما بين الفئة العلمانية والمسلمة، وكان واضحاً ان أردوغان أقدم على التنازلات المطلوبة للقوى الكبرى وقبوله بالشروط المطروحة على الطاولة، وذلك في سبيل بقائه في رأس الهرم في قيادة تركيا، أو أن المهمة الملزمة إليه يبدو أنها لم تكتمل بعد وإن عليه تطبيقها على اتم شكل. حيث بدأ بالتنازل عقب التنازل بعد انتهاء الانتخابات ونجاحه المشكوك بفارق بسيط جداً. كما وإن روسيا الاتحادية لم تستطع إخراج تركيا من محورها الاستراتيجي في التعامل مع الغرب وتبين أن العلاقة ما بين الاثنين لا تتجاوز العلاقة التكتيكية قصيرة الأجل، إمداد أوكرانيا بالمسيرات التركية كانت من النقاط الخلافية بين موسكو وتركيا، ولكن تركيا جزء من حلف الشمال الأطلسي (الناتو)، إذاً فأي خطة تكتيكية مع روسيا تتعارض مع الأهداف الاستراتيجية مع الحلفاء تكون مرفوضة قطعاً دون أدنى نقاش، إضافة إلى تنازل الأتراك عن مواقفهم الصارمة ضد الحكم في مصر والتقرب من السلطات الحاكمة هناك بغية تلطيف الأجواء السياسية مع الدول الإقليمية، كذلك التواصل مع السعودية ومحاولات التقرب من راس النظام السوري، وإعادة اللاجئين السوريين إلى المناطق المحتلة، رغم أنها نوع من ذر الرمد في العيون وللتغطية على الفشل الداخلي في السياسة الاقتصادية للبلاد، والحالة المتدهورة داخلياً.

في الخلاصة فإننا نستنتج أن راس الهرم في تركيا بقيادة حزب العدالة والتنمية وزعيمها أردوغان الذي كانت له طموحات عالية في قيادة العالم الإسلامي لم تكن رياحه تجري بما تشتهيه سفنه، خاصةً مع تعاظم التيار الإسلامي الشيعي في المنطقة بقيادة إيران وتنامي نفوذ السلطة الدينية الإسلامية السنية بقيادة السعودية وخاصةً بعد البدء بمشروعها الاستراتيجي لقيادة المنطقة ورؤيتها 20-30 في خلق مكانة لها بين الدول العظمى، وتدخلها في حل قضايا المنطقة والعالم وفرض نوع من الشخصية العربية، بالإضافة إلى التخبط الداخلي الذي تعيشه تركيا عموماً وحزب العدالة والتنمية خصوصاً، فقد كان للانشقاقات الداخلية للحزب الأثر الكبير على تنفيذ الخطط المرسومة له، كل ما سبق كانت من العوامل التي أرجعت تركيا إلى مكانها الطبيعي ووزنها الإقليمي المعتاد والتسول على أبواب الاتحاد الأوروبي وضياع حلمها السلطاني أو الخلافي في قيادة العالم الإسلامي وخلق هالة لها في سياسات الأقطاب التي تدير العالم.

زر الذهاب إلى الأعلى