سوريا كجزء من الشرق الأوسط ما لها وما عليها

شرفان سيف الدين

لم تتأخّر سوريا في الانضمام إلى ما بات يُعرَف بربيع الشعوب أو (الربيع العربي) الذي اجتاح شمال أفريقيا والشرق الأوسط مع نهاية عام 2010م وبداية عام 2011م؛ فبعد الشرارة التي أشعلها الشاب التونسي (محمد البوعزيزي) كردّة فعل على الاحتقان الجماهيري؛ وخاصةً الطبقة ما دون المتوسّطة والمسحوقة تماماً، انضمّت إليها كلٌّ من ليبيا ومصر واليمن ثمّ سوريا، وذلك خلال فترات متتالية ومتقاربة جدّاً، ربّما لأنّ حكّام هذه البلدان في الأساس كانت توجّهاتهم وسياساتهم متشابهة في قيادة مجتمعاتهم؛ حيث قادوها تحت شعارات عروبية ومقاومة خلّبية يخدّرون بها مجتمعاتهم ضدّ الامبريالية العالمية والحداثة الرأسمالية من منظورهم الاشتراكي الذي يحملونه في أدبياتهم التي كانت امتداداً للاشتراكية والشيوعية المتمثّلة في الاتحاد السوفياتي المنهار في تسعينيات القرن الماضي.

جميع الدول التي ثارت كان حكّامها ذوي خلفية عسكرية بحتة، وعليه؛ فإنّ جميع الحقوق المدنية كانت مقيّدة بشكل أو بآخر، بالإضافة إلى التقويض السياسي للأفكار المختلفة عن سياسة حكّام هذه البلدان؛ ولذلك فقد أنتجت معارضة مشوّهة أيضاً، فلم تكن معارضات هذه البلدان، أو بتعبير أدقّ معارضة حكّام هذه البلدان، بالمستوى المطلوب لتكون البديل لهذه الانظمة، وكمثال بسيط على ما سبق: فإنّ كلّ ما جرى في العراق بعد إسقاط حزب البعث وإسقاط الدكتاتور (صدام حسين) على يد القوات الأمريكية والغربية هناك، ورغم وجود عدد كبير من الشخصيات المعارضة البارزة التي كانت منتشرة في أصقاع العالم ودراستها في الجامعات المرموقة فيها وحصولها على شهادات عُليا منها، فإنّ تلك الشخصيات المعارضة لم تكن قادرة على قيادة مجتمع شرق أوسطي بعقلية وتربية غربية، وكان الشرخ ما بين الطبقات العامة والقيادات المعارضة القادمة من الخارج واضحاً وغير قابل للترقيع أو إيجاد حلّ وسطي للمشكلة أساساً، وبالتالي؛ كان لهدم مؤسّسات الدولة الأثر الأبرز على الحياة اليومية البسيطة للمجتمع الذي ما زال يعاني رغم مرور عقدَين من الزمن.

وكذلك معظم معارضات الدول التي قادت ربيع الشعوب؛ فتونس ومصر تسلّطت عليهما جماعة الإخوان المسلمين وكأنّ القيادة فيها جزء من غنيمة حرب، أمّا في ليبيا واليمن فقد سيطر عليهما الانقسام الشعبي؛ في ليبيا بين الشرق والغرب، وفي اليمن بين الشمال والجنوب، وكان دليلاً قاطعاً على عدم اندماج المجتمعات في ما يُسمّى الوطن الواحد، وفي سوريا كانت المعارضة المثقّفة، أو التي تحمل الأفكار النظرية للتغيير، غير مهيّأة للقفزات المتسارعة التي تحدث في الشارع، وبدا التخبّط فيها واضحاً؛ وذلك لوجود عدد هائل من الشخصيات، ولعدم وجود تنسيق ما بين هذه الشخصيات والشارع والشباب الثائر.

الولوج في الثورة دون ثوار:

بطبيعة الحال؛ ومع التطوّر التكنولوجي المتسارع، انخرط الشباب السوري في رياح التغيير القادمة من الغرب، وبدأت التنسيقيات الشبابية بالتفعيل هنا وهناك في المدن والبلدات السورية على امتداد البلاد طولاً وعرضاً، وكانت جميع الشعارات المرفوعة تدعو إلى التغيير والإصلاح الفعلي، وفسح المجال أمام مزيد من الحريات السياسية (الشخصية والعامة)، وتحسين الظروف المعيشة اقتصاديًا، خاصةً مع وجود كمّ هائل من الإمكانات التي يمكن استثمارها لصالح المواطن، ولتتسارع الاحداث بشكل دراماتيكي إلى الدعوة لإسقاط النظام والدعوة للتغيير الجذري بدلاً من إصلاح الموجود؛ وذلك بسبب القناعة المسبَقة بعدم إمكانية الإصلاح في ظلّ التزمّت الحاضر، والذي تُرجم من خلال كمية العنف المفرط في مواجهة الصدور العارية التي امتدّت لأكثر من ستّة أشهر دون أيّة استجابة فعلية أو حتى بوادر اعتراف بوجود خلل أو مشكلة، بل على العكس من ذلك؛ فقد بدأت السلطات بإلقاء اللوم على المتظاهرين لانجرارهم خلف مؤامرة كونية تستهدف سوريا في شخص رئيسها ومنظومتها القيادية التي تقف في وجه الإمبريالية والصهيونية العالمية (بحسب زعمها وتصوّرها). كانت التنسيقيات الشبابية (شعلة البداية لرياح التغيير في سوريا) حديثة العهد وقليلة الخبرة، أمّا الطبقة المعارضة فلم تستطع الخروج من قوقعة الأشخاص، ولم ترقَ لمستوى المرحلة ولا لمستوى التغيير الكلّي، لذا؛ فقد بدا التشتّت والتخبّط واضحاً منذ البداية.

بدء التسلّط على الثورة وخلق ملامح المحاور الإقليمية:

مع التخبّط وحالة الفوضى ضمن الحركات الشبابية التي سُمّيت بالتنسيقيات؛ بدأت الجهات الإقليمية بالتدخّل في الشأن السوري بالفعل، وبطبيعة الحال؛ كانت دول الجوار هي السبّاقة إلى ذلك، وعلى رأسها “الجار التركي” الذي يحمل مشروعاً غربياً في تطبيق نموذج الإسلام المعتدل لتحسين صورة الإسلام السياسي، خاصةً بعد الحرب الغربية ضدّ الحركات الجهادية الإسلامية المتمثّلة في تنظيم القاعدة بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول من عام 2001م ضدّ الولايات المتحدة الأمريكية. مع وصول حزب العدالة والتنمية التركي إلى سدّة الحكم، بدأ على الفور بتطبيق الخطّ المرسوم له؛ وذلك من خلال الإصلاحات الاقتصادية للأزمات التي عصفت بالبلاد، ونوع من الحريات السياسية والثقافية، والانفتاح على دول الجوار، والبدء بتطبيق سياسة “صفر مشاكل” مع كل من سوريا واليونان وأرمينيا …إلخ. بعد 2011م بدأ “الذئب التركي” سريعاً بالتكشير عن أنيابه؛ حيث الوقوف إلى جانب ما تُسمّى بالمعارضة السورية واحتضانها وتبنّيها على حساب السلطة في دمشق، وخاصةً الجناح الراديكالي المتشدّد والمتمثّل في حركة “الإخوان المسلمين” المعارضة واحتضان قياداتها، واستقبال المنشقّين العسكريين من الجيش السوري، في تحضير لعسكرة الثورة بسبب إطالة الحراك السلمي في مقابل حركة القمع المفرط من قبل نظام دمشق، وهكذا انضمّت دول الخليج إلى كلّ ما سبق؛ من خلال المحور السعودي – الإماراتي، والمحور القطري المساند لتركيا، في تنافس سُنّي – سُنّي على كيفية الاستفادة من سوريا وموقعها الجيوستراتيجي المتمثّل في الطرق التجارية التي يمكن أن تربط الشرق بالغرب، بطبيعة الحال؛ فإنّ الإمبراطورية الفارسية، المتمثّلة بإيران حالياً، كانت هي الأخرى متيقّظة لكلّ ما يجري من أحداث متسارعة على ساحة الشرق الأوسط بشكل عام وسوريا بشكل خاص، وذلك لما تحمله من رمزية في احتضان دمشق لمراقد رموز شيعية، وإمكانية إخضاعها للهيمنة الفارسية الشيعية على أنّها كانت مصدرًا أو مركزًا للخلافة الاموية؛ كلّ ما سبق وكلّ الحسابات التي كانت تحمل ضمن خطوطها تفاصيل دقيقة كانت كفيلة بتسارع وتهافت القوى الإقليمية على سوريا.

الغرب وكيفية الاستفادة من سوريا وجغرافيتها:

لم يتدخّل الغرب بشكل مباشر في المعضلة السورية إلّا مؤخَّراً، وكانت في موقع المتفرّج لما ستؤول إليه مجريات الأحداث، خاصةً مع وجود لاعبين إقليميين بارزين محسوبين على هذا المحور أو ذاك، وارتباطهم المباشر مع الغرف الاستخباراتية لهذه الدول وغرفها السرية. بإمكاننا اعتبار مؤتمر جنيف والقرار الاممي (2254) من أهم ما أمكن إنجازه دولياً بالنسبة لسوريا ككل على الصعيد السياسي، أمّا على الصعيد العسكري فقد تم تدمير أكثر من ثمانين في المئة من البنية التحتية الأساسية بسبب الأعمال العسكرية على طول البلاد؛ فبعد الدخول المباشر للولايات المتحدة الأمريكية في محاربة الإرهاب تدخّلت روسيا أيضاً بنفس الحجّة (رغم دخولها سابقاً عن طريق وجود مستشارين عسكريين واستخباراتيين)، فكلا المعسكرَين (الشرقي والغربي) منتبه بالفعل إلى مدى أهمية سوريا ضمن استراتيجياتها المتوسّطة وبعيدة المدى؛ فلا يخفى على أحد المخطّط الذي حملته كونداليزا رايس (وزيرة الخارجية الامريكية السابقة) للمنطقة بعد اجتياح العراق، والذي ظهر أول مرّة للعلن سنة 2006م وتحت مسمّى (الشرق الأوسط الجديد أو الكبير) بعد الحرب التي دارت بين إسرائيل وحزب الله اللبناني في تموز من نفس العام؛ حيث صرّحت بأنّها الإفرازات التي تنتج عن مخاض الولادة الجديدة في المنطقة، كذلك روسيا الاتحادية ما بعد بوتين الذي أعاد روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي إلى الساحة الدولية كقطب رئيسي وإمكانية كسر جليد سياسة القطب الواحد التي تديره الولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث تعتبر روسيا أنّ سوريا من أهم ساحاتها التي لا يمكن الاستغناء عنها في الشرق الأوسط، وأنّها ممرّ مهمّ للوصول عن طريقها إلى المياه الدافئة المتمثّلة بالساحل الشرقي للمتوسط وما تحمله من مواد طبيعية وخاصةً الطاقة المتمثّلة بالغاز، وأيضاً الاستفادة من الجغرافية السورية وقطع الطريق أمام أي مشاريع غربية تهدف للاستفادة من هذه الأراضي لإيصال الغاز العربي الخليجي لأوروبا.

سوريا في خضمّ كلّ ما سبق من مخطّطات:

المشكلة الرئيسية في كلّ ما سبق هو الابتعاد عن التفكير السوري – السوري في حلّ المشاكل الداخلية، وكذلك تمسّك كلّ طرف بمحور إقليمي ودولي يحاول استغلال المشكلة لصالحه، كلّ ما سبق كانت له آثار سلبية على إطالة وتعقيد المشكلة.

النظام السوري في دمشق:

بعد مُضيّ أكثر من ثلاثة عشر عامًا على الأزمة المستمرة لم يستطع نظام دمشق الخروج من قوقعة “المؤامرة الكونية” التي تستهدف رأس النظام والمتمثّل برئيسها بشار الأسد، واختزال كل هذا الدمار والقتل والخسارة بانتصار رأس النظام وبقائه في السلطة الشكلية في دمشق، والتي أصبح معروفًا للجميع تقاسم قرارها السياسي ما بين محورَي موسكو وطهران، علاوة على مدى الصراع المحتدم بينهما حول إمكانية التفرّد بهذا القرار، وتبيّن ذلك جلياً من خلال التصفيات التي حدثت ما بين الشخصيات المحسوبة على كلّ طرف في الفترة الأخيرة، ومدى الخرق الأمني الداخلي في الأجهزة الأمنية التابعة له.

بقايا المعارضة المتمثّلة في محور إسطنبول:

ربّما لن نغالي إذا ما قلنا إنّ الجار التركي يُعتبَر أكثر المستفيدين من كلّ ما جرى في سوريا، رغم استقباله للعدد الهائل من اللاجئين السوريين على أراضيه؛ ويمكننا طرح بعض نقاط الاستفادة المباشرة أو غير المباشرة كما يلي:

  • الاستفادة المباشرة من قوة الأيدي العاملة السورية الرخيصة على أراضيها.
  • الاستفادة من المساعدات المالية (النقدية والعينية)، الدولية منها والإقليمية، وخاصةً (الخليجية) في تنشيط اقتصادها المتدهور في السنوات الأخيرة.
  • الاستفادة المباشرة من سرقة موجودات وأصول معامل حلب، ونقلها للأراضي التركية بأقلّ من ربع قيمتها الحقيقية.
  • الاستفادة المباشرة من القوة العسكرية السورية وفصائلها لخدمة أجنداتها الخاصة، والمحاربة بها وزجّها في مواجهات لا تمتّ للمسألة السورية – لا من قريب ولا من بعيد – بصِلة، وتحويل عناصرها إلى “مرتزقة تحت الطلب” والاستعانة بهم عند الحاجة، كما جرى في كل من ليبيا وأذربيجان والنيجر… إلخ.
  • الاستفادة من اللاجئين والتلويح بهم كورقة ضغط على الاتحاد الأوروبي بين الحين والآخر؛ بفتح باب الهجرة غير الشرعية تجاهه.
  • خلق بيادق تحت الطلب من المعارضة السياسية الباقية تحت كنفها، والاستفادة منها عند اللزوم.
  • الاستفادة من المرتزقة من فصائل ما يُسمّى بـ “الجيش الحر” في الشمال الغربي؛ لخلق نوع من البلبلة بين الحين والآخر، ومحاربة السوريين بهم والضغط على الحلفاء التكتيكيّين (روسيا وإيران) أو ما يُعرَف بمحور أستانا.

المشروع الوطني الجامع أو ما يعرف بنهج “الخط الثالث”:

إنّ تجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية بقيادة حركة المجتمع الديمقراطي في بداية عام 2014م، ومن ثم تطوّرها عبر تشكيلاتها السياسية المتمثّلة بمجلس سوريا الديمقراطية كمظلّة سياسية، وقوات سوريا الديمقراطية كمظلّة وحاضنة عسكرية، تُعتبَر صمّامَ الأمان لتجربة شمال وشرق سوريا، وربّما يُعتبَر البرنامج السياسي لها الحلّ الوحيد الذي يُطرَح بشكله الوسطي حتى الآن، خاصّةً مع تعنّت النظام وتمسّكه بالبقاء في السلطة وبالحلول الأمنية والعسكرية في حلّ المعضلة الموجودة، وفي المقابل تواجد للمعارضة المستسلمة والراضخة للإملاءات التركية وعدم تمكّنها من الخروج من الفلك التركي المهيمن.

إنّ طرح مشروع الأمة الديمقراطية وتبنّيها من قبل شرائح واسعة من مكوّنات شمال وشرق سوريا ما هو إلّا دليل واضح وحقيقيّ على مدى حتمية العيش المشترك ما بين مكوّنات المنطقة، على اختلاف معتقداتها الدينية وتنوّع أعراقها، مع محافظة كلّ شريحة على ثقافاتها وخصوصيتها، وعليه؛ فإنّ تكاتف أبناء المنطقة وتخندقهم في صفّ واحد هو الدليل على إنجاح هذه التجربة مهما كلّف الأمر، ولعلّ التضحيات المقدَّمة لغايته تُعتبَر من أهم وسائل الإثبات، كما أنّ اشتراك الجميع في مؤسّسات الإدارة المدنية منها والعسكرية ما هو إلّا دليل إضافي على أنّ الجميع مؤمن بحتمية الالتفاف حول هذه الإدارة والإيمان بهذا المشروع.

المقالة تعبر عن رأي الكاتب

زر الذهاب إلى الأعلى