لقاء مع الشيخ مرشد معشوق الخزنوي

نعلم أنّ الثورة الزراعية قامت في الشرق على أرض ميزوبوتاميا وكذلك انتشار اللغات، وخلال فترات مختلفة من التاريخ كان الشرق مركزًا للحضارة والعلم والمعرفة، يقصده الناس من شتّى أنحاء العالم بحثًا عن العلم والمعرفة، أي أنّ الدور الريادي والطليعي كان بيد الشرق.

السؤال هنا: ماذا حلّ بالشرق الاوسط والشرق عامة ليدخل في حالة من الجمود والركود والسبات العميق؟ وما سبب تولّي الغرب الريادة والمبادرة؟ وما علاقة الدين بذلك؟

ما هو شكل الإسلام المطلوب ليستعيد الشرق دوره؟

شكراً لكم وهذه فرصة سعيدة للقاء بكم لإجراء هذا الحوار، وأسأل الله لكم التوفيق والسداد والنجاح.

عندما نقول “الشرق” فهو في ظلّ حكم المسلمين كان يعيش ثورة علمية يقصده حتى الغرب وينهلون من هذه المعرفة، في حين أنّ الغرب كان سبّاقاً قبل ذلك في الإشكاليات الدينية، والكنيسة كان لها أثر سلبي على المجتمعات في الغرب، وفي ظلّ حكم الكنيسة مورست العديد من الانتهاكات بحق الانسان، وكانت هناك صعوبات كبيرة في حياة المجتمع الغربي.

 المجتمع المسلم ربّما بحكم أنّه مجتمع حديث في التجربة الدينية كإسلام وتجدّد حكم المسلمين، وأنا لا أقول “الإسلامي أو المذهبي المتجدّد” على اعتبار أنّه لم يكن عبر التاريخ مذهباً واحداً هو السائد، والغرب قد وصل الى ما هو عليه اليوم عندما اتّخذوا قرارهم بفصل الدين عن الدولة، هذا الذي تمسونها “العَلمانية” سمّوها ما تشاؤون من تسميات، فالتسمية لاتهمّ كثيراً ولا يهمّ المصطلح، المهمّ هو القالب أو اللبّ الموجود في هذا القالب، هذا هو المهم، فالغرب لم يتقدّم إلّا عندما فصل الدين عن الدولة، وفصل الكنيسة عن حياة الناس، حينها استطاع الناس أن يتنفّسوا الصعداء وأن يبنوا من جديد، والشيء الذي تعيشه أوربا اليوم هو بفضل فصل الدين عن الدولة، وقد أوصلهم الى مراتب عليا من العدالة، والعدالة شيء مهم لبناء الأوطان واستمرار الحياة. ابن خلدون يقول: (العدل أساس الملك) وابن القيّم وقبله ابن تيمية، وقبل ابن تيمية علماء آخرون عندهم مقولة مشهورة يقولون: (إنّ الله ينصر الدولة الكافرة إن كانت عادلة، ولا ينصر الدولة المسلمة إن كانت ظالمة).

نحن في الشرق دخلنا في ظلم كبير وعميق، وللأسف الشديد تحت مسمّيات دينية ومسمّيات إسلامية، هذا الظلم لازال ممارَساً حتى هذه اللحظة، ولهذا الأمر لازالت المجتمعات الشرقية تعيش حالة من التخلّف. أوربا اليوم تتمتّع بالعدالة، والكثير منّا كمسلمين يهرب إلى بلاد الغرب حبّاً وعشقاً وبحثاً عن هذه العدالة، وهذه العدالة هي مطلب ديني أيضاً.

الدول الإقليمية دائماً تستغل الدين لمصالحها السياسية، بدءا من العثمانيين الذين استغلّوا الدين وحكموا المنطقة باسم الدين بالرغم من أنّه لا علاقة لهم بالدين، واليوم يستمرّ استغلال الدين من قبل تركيا وإيران لخدمة المصالح السياسية، ويستغلون الكرد لمصالحهم السياسية باسم الدين، كيف يمكن مخاطبة الكرد الذين يتم استغلالهم باسم الدين؟ وما هي رسالتك لهم؟

 أنا اتحفّظ على عبارة “أنّ العثمانيين استغلّوا الدين بالرغم من أنّه لا علاقة لهم بالدين” فأنا لا أعلم ما في قلوب الناس، والإسلام قد علّمنا مبدأ العدالة، فعندما قتل صحابيٌ شخصاً قال: “أشهد ألّا إله إلّا الله وأشهد أنّ محمد رسول الله” فعاتبه النبي عليه الصلاة والسلام واعترض على هذا القتل، فقال: يا رسول الله، إنّما قالها اتّقاء للسيف. فقال الرسول: “هلا شققت عن قلبه”.  وأنا لا أشقّ قلب الناس وما الايمان الذي في قلوبهم، لكن أنا أؤكّد معك على موضوع الاستغلال الديني، وتاريخياً القضية غير مرتبطة بالعثمانيين وحدهم ولا بالأتراك وحدهم، فالفرس استغلوا الدين، والعثمانيون استغلوا الدين، والعرب قبلهم استغلوا الدين، والجميع حاول استغلال الدين لمصالحهم ولمصالح مجتمعاتهم ولصالح قومياتهم، هذا أمر موجود إذا جاز التعبير أو استطاع شيخ  مثلي أن يقول هذه المقولة أو ينبّه إليها، ماركس له مقولة تقول: “الدين أفيون الشعوب ” وهذه الكلمة نحن كمسلمين نضيف إليها كلمة ونقبلها فنقول: (الدين أفيون الشعوب اذا استُغلّ) حقيقة إذا استُغلّ الدين من قبل الآخرين أو من قبل مجموعات عرقية أو من قبل مجموعات حاكمة أو من قبل أي مجموعة  فسيصبح هذا الدين فعلياً مثل الأفيون بين الناس، وسيكون نبتة غير صالحة ونبتة غير جيدة داخل هذه المجتمعات، ودائماً ستحاول زرع التفرقة والحقد والحسد بين المجتمعات، وللأسف هذا ما يحصل اليوم سواء في إيران أو في تركيا، وفي سوريا حصل هذا الأمر خلال هذه الـ 14 سنة، ولازال الامر مستمرّاً وموجودًا في أكثر من دولة من الدول التي تدّعي أنّها إسلامية، للأسف هذا الاستغلال موجود، وحبّذا أن يفصل الدين عن هذه الممارسات، وتاريخياً كان هذا الاستغلال موجوداً، وكثيراً ما قتل علماء وأئمة أجلّاء عظماء تحت راية الدين، وكثيراً ما تم تكفير عباقرة مسلمين تحت عباءة الدين .

–  دائماً استُغلّ الدين لمصالح السلطة ولمصالح الآخرين، وفي الحقيقة هذه المشكلة موجودة في فقهنا الإسلامي، الفقه الإسلامي فقه غنيّ، والتراث الإسلامي الفقهي خزانة مليئة ونبع لا ينضب، من ناحية فقه المعاملات من زواج وطلاق وبيع و شراء، وفقه العبادات من طهارة  وصلاة وصيام  وحجّ وزكاة، ولكن فقهنا السياسي وفقهنا المجتمعي فقه فقير، ونحن لا نمتلك ذلك الزخم كما نمتلكه في الطهارة و في الصلاة وفي الحج وفي الزكاة،  فقهنا السياسي دائماً كان فقهاً تبريرياً لواقع سياسي موجود، ودائماً كان فقهاً تبريرياً لقرارات ومآرب السلطة السياسية، وهذه إشكالية موجودة عندنا، وبالتالي هذه الثغرة هي التي تستغلّها السلطات السياسية سواء كانت في تركيا أو في إيران أو في سوريا أو في أي منطقة أخرى، والمطلوب -ونحن نصرّ عليه- هو فصل الدين عن الدولة؛ ليبقى الدين في قداسته ومحلّ احترام وتقدير في قلوبنا، وألّا يكون الدين مطيّة  لهؤلاء الحكام الظلمة الفسقة الذين يريقون الدماء، ولا يحترمون المسلم ولا غير المسلم، ولا يقدّسون الدم ويستحلّون لأنفسهم كلّ غالٍ ورخيص  باسم الإسلام .

– حتى هذه اللحظة لازال موضوع فصل الدين عن الدولة إشكالية في مجتمعاتنا المسلمة، بالرغم من أنّ المآسي التي مرّت على المجتمع المسلم كانت تحت غطاء الدين والدين منه براء، ولذلك ومن أجل أن نصون الدين ونحافظ عليه يجب أن نسحب بساط الدين من تحت هؤلاء الطغاة والظلمة وهؤلاء السلاطين وهؤلاء الرؤساء، سمّهم ما تشاء، فالتسميات لا تهمّ السلطات التي تحكم بالحديد و النار على رقاب الناس وتستغلّ الإسلام.

– من المآسي التي أثّرت في أنفسنا أنّه عندما تمّ احتلال عفرين قرِئت سورة الفتح على المنابر وفي المساجد، في محاولة لإيهام البسطاء من المسلمين أنّ الحرب دائرة بين المسلمين والكفار، وهذه كانت مأساة أليمة في قلوبنا، فعفرين مسلمة وعفرين كردية تدين بالإسلام منذ مئات السنين، بالرغم من أنّ عفرين فيها تعدّد ديني من إيزيديين وغيرهم، والجميع له احترامه، وله وجوده ويجب الحفاظ عليه، لكنّهم حاولوا أن يستغلّوا الدين وأن يوهموا البسطاء أنّ حربهم هذه حرب دينية وحرب مقدّسة، وللأسف الشديد اغترّ الجميع بهذا الامر، مهمّ جدّاً أن نسحب البساط  الديني من تحت أقدام هؤلاء الظلمة والطغاة.

محاربة الديمقراطية من قبل الإسلاميين وخصوصاً الجماعات المتطرّفة والتي وصلت الى حدّ تكفير الديمقراطية يجعلنا نطرح هذا التساؤل: ترى هل يتعارض الدين مع الديمقراطية؟ وما هو المنظور الإسلامي للديمقراطية؟

– لا تنسى أنّ الديمقراطية مصطلح غير إسلامي، والديمقراطية مصطلح لا يعرفه المسلمون قبل مئة سنة، أي لم يتعرّف المسلمون على مبدأ الديمقراطية أو اسم الديمقراطية، فمنشأ الديمقراطية خارج بلاد المسلمين، وهناك دائماً حساسية في مجتمعاتنا المسلمة حيال أي كلمة وأي مصطلح او مبدأ أو فكرة تأتي من خارج الحدود، فدائماً يقفون في وجهها و يحاربونها، وللأسف الشديد استغرقت التيّارات الإسلامية السياسية وقتًا طويلاً في موضوع الديمقراطية، حتى وصل بهم الأمر قبل ثلاثين سنة أن يعتبروا الديمقراطية كفرًا، ولا يزال بعضهم يردّد أنّ الديمقراطية كفر، بالرغم من أنّ بعض التيّارات الإسلامية الأخرى تقبّلت فكرة الديمقراطية، من المهمّ جدّاً أنّنا نشرح للناس ما الذي نقصده بالديمقراطية وكذلك العَلمانية؛ فالكلمتان مترادفتان، والاثنتان قادمتان من خارج الحدود؛ فالناس عدوّة ما تجهل، وأحياناً يختلف تطبيق الفكرة على أرض الواقع من مكان لأخر ومن زمان لآخر، فتجربة الإنسان في ظل الديمقراطية في الدول العربية لا نقبلها بكل تأكيد، والدول العربية كلّها كانت تدّعي بأنّها ديمقراطية، ولم نرَ من ديمقراطية الدول العربية إلّا الويل والخراب والدمار والجوع والعطش، ورأينا المأساة جرّاء الديمقراطية العربية. سوريا كانت تدّعي أنّها عَلمانية، ولم نرَ من عَلمانيتها إلّا المآسي والأوجاع. تركيا طبّقت العَلمانية، وعَلمانيتها كانت عبارة  عن معاداة الدولة للدين، فهذه تجارب لبعض هذه الأفكار، ولكن في ذات الوقت رأينا العَلمانية في بريطانيا، فالعَلمانية في بريطانيا عكس العَلمانية الموجودة في تركيا، ففي تركيا كانت معاداة الدولة للدين، بينما في بريطانيا هي الحياد بين الدين والدولة، وهذا مطلب الديمقراطية في الدول العربية، وفي أغلب حركاتنا السياسية التي تدّعي الديمقراطية ليست لها علاقة بالديمقراطية، أمّا في الديمقراطيات التي رأيناها في الغرب فقد تمتّع الانسان بكامل حقوقه، وانتشرت المساواة بين الناس، وتمّ احترام حقوق الاخرين واحترام آراء الناس، فهذه مطالب دينية وهذا جوهر الإسلام  ولابدّ أن نأخذ به. أحياناً الناس تتحرّج من المصطلحات، وخلال عملنا في المعارضات والمجالس السياسية كثيراً ما كانت تكتب الوثيقة  في دعوات الابتعاد عن كلمة “العَلمانية” تحدّثوا عن الدولة المدنية (  فالدولة المدنية نفسها هي العَلمانية )… لا؛ فهي ليست نفسها، ولكنّهم كانوا يحاولون أن يخفّفوا من عبء الكلمة؛ لأنّ الناس لا تتقبّل الكلمة، لكن جوهر الديمقراطية وجوهر العَلمانية التي تعني أن يُحترَم كلّ إنسان، وأنّ كل قومية أو كل مجموعة عرقية او دينية أو أي أنسان يجب أن ينال حقّه في هذه الحياة وفي هذه الدولة، وبناء الدول على مبدأ المواطنة، هذه أمور دينية وإسلامية، والنبي (ص) في الكثير من مراحل حياته مارس أجزاء من هذه التي تسمّونها الديمقراطية، أنا ليست لدي مشكلة مع المصطلحات، سمّها ما تشاء، فأنا لا تهمّني التسميات، ما يهمّني هو الجوهر.

–           ما هو المنظور الديني للقضية الكردية؟

            لاشكّ بأنّ الشعب الكردي قد عانى تحت غطاء الدين كثيراً من الاوجاع والآلام والمآسي، والشيخ الشهيد معشوق الخزنوي كان مدركاً لهذه الأمور، ولذلك كان يلقّب نفسه بـ “خبير الألغام الدينية”. السلطات السياسية  التي تحكم كردستان والتي اغتصبت أرض كردستان، سواء في سوريا أو تركيا أو أيران استغلت الدين الإسلامي في محاربة الكردي، وزرعت في المجتمع ما يشبه الألغام  المعنوية ووضعتها في طريق الشعب الكردي؛ لمنع وصوله الى حقوقه وحريته، لذلك كان يقول: “أنا وظيفتي أن أفكّك هذه الألغام  التي زُرعت وصُنعت باسم الدين، لكن الدين ليست له علاقة بهذه الأمور، فالدين ينظر إلى الكردي والعربي والتركي والفارسي  كبشر سواسية، الناس سواسية كأسنان المشط، لهم نفس الحقوق ونفس الواجبات، والإسلام لا يفرّق بين كردي  وتركي وفارسي، فالناس كلّهم متساوون في الحقوق والواجبات”.

–           كيف تقيّمون واقع الحركة السياسية في الوقت الراهن؟ وكيف ترون عرقلة وحدة الصف الكردي؟ وما هو المطلوب من الحركة السياسية لإنجاز هذه الخطوة؟

–           في الحقيقة الواقع سيّء؛ فاليوم الإدارة الذاتية هنا لها تجربة جديدة، وفي هذه التجربة هي نجحت في بعض المجالات  إلى أعلى درجة، مثل قبول الآخر سواء كان عربياً أو قوميات أخرى متعدّدة، الإدارة الذاتية خطت خطوات كبيرة جداً وهي محلّ تقدير واحترام، وفي الاتجاهات الدينية أيضاً هناك خطوات جميلة ورائعة ونشكرها، مسيحيا إيزيدياً إسلامياً هناك تعاون، وهذا شيء جميل جداً، ولكن من مأخذنا على الإدارة الذاتية هو موضوع  الحوار الكردي –الكردي، والعلاقات الكردية – الكردية؛ فالعلاقات الكردية – الكردية حتى هذه اللحظة هي علاقات غير جيّدة وليست في المستوى المطلوب لأبناء الشعب الكردي، فأبناء الشعب الكردي يطمحون إلى شيء آخر ويحترمون خصوصية كل حركة وكل حزب أيضاً، ولا أحد يطالب بتجمّع تنظيمي، لا احد يطالب بهذا، ولا أحد يطالب باندماج كل الحركة السياسية في حركة واحدة، ولكن الجميع ينادي من أجل الاتفاق على بعض النقاط  المشتركة  المصيرية التي يتعلق بها مصير الشعب الكردي وتندرج تحت بند الأمن القومي الكردي. من الضروري أن يكون هناك اتفاق بين جميع أبناء الحركة الكردية، ومن دون هذه الاتفاقية ستبقى قلوبنا تنزف دمًاً على الدوام. وحتى هذه اللحظة تنزف قلوب أبناء الشعب الكردي دماً على هذا الشرخ الموجود بين أبناء الحركة السياسية الكردية، والمسؤولية تقع على عاتق الجميع ولا أستثني منهم أحداً، لا أستثني الأحزاب المنضوية تحت سقف الإدارة الذاتية ولا الأحزاب في الـ(ENKS)  ولا الأحزاب خارج المنظومتَين، الجميع يتحمّل هذا الذنب والجميع عليه المسؤولية من أجل الوصول إلى قرار جامع يلمّ شتات الشعب الكردي ويدخل الفرحة والامل والبسمة إلى قلوب الملايين من أبناء الشعب الكردي، ومن دون هذه الاتفاقية مهما بنينا من شيء فسيبقى ناقصًا، وستبقى قلوبنا دامية، ومع ذلك نحن لا نفقد الأمل، والأمل موجود، وهذا الهمّ طرحناه في كلّ مكان ذهبنا إليه، سواء في المؤسسات التابعة للإدارة الذاتية أو الحركة السياسية، وعندما ذهبنا إلى الـ(ENKS )  أو الحزب التقدّمي أو المجموعات الأخرى التي زرناها أوصلنا هذا الهمّ للجميع، ونأمل من الله عز وجل أن يكون قادم الأيام يحمل بشرى لنا ولأبناء شعبنا الكردي.

زر الذهاب إلى الأعلى