التاسع عشر من تموز نقطة تحول

شرفان سيف الدين

مما لا شك فيه أن المتابع للمخطط العام للثورات الحاصلة في المنطقة يلاحظ مدى الفوضى التي ترافقت مع المطالب المحقة للشعب في الحرية والكرامة والديمقراطية، بدءاً من تونس، ليبيا، اليمن، وصولاً لسوريا. سوريا التي دخلت الربيع العربي في الخامس عشر من آذار من العام 2011م، والتي كانت ذات مطالب محقة وعادلة فبدأ شبابها بالحراك السلمي مطالبين كباقي شعوب المنطقة بتحسين ظروف الحياة وإتاحة الفرص أمام الجيل الشاب في تكوين شخصيته ومستقبله، لكن سرعان ما تلاشى ذلك بعد دخول الحراك خط العسكرة والمواجهة العسكرية المباشرة ما بين النظام والمعارضة، فبعد مرور أكثر من عام على الثورة أو الأزمة السورية بدأ الأمر يتوضح للمتابع أو المهتم بالسياسة أن الأمر لن يكون حلّه في غضون مدة زمنية وجيزة، وعليه كان لزاماً على القوى الكردية وأحزابها السياسية في غرب كردستان دراسة الأوضاع من جميع جوانبه ووضع خطط استراتيجية لمواجهة ما هو قادم ولفترة يبدو أنهَا ستكون طويلة.

لماذا أنشأت قوة عسكرية أهميتها، ضرورتها، بعدها؟

الكرد بطبيعتهم أقوياء البنية جسدياً ومقدامون ولا يهابون القتال ولا يخافونه وذلك مثبت في صفحات التاريخ والتاريخ يشهد لهم بذلك، ومع دخول الأزمة السورية على خط العسكرة تنبه الكرد مبكراً لضرورة خلق قوة عسكرية خاصة لحماية مناطقهم في روج آفا (غرب كردستان)، ولأن الجغرافيا الكردية تحتضن في داخلها مكونات وأعراق وديانات أخرى كان لابد من خلق قوة عسكرية تكون حاضنة لجميع المكونات والأعراق والأديان المتواجدة دون تفرقة، فكانت اللبنات الأولى لبناء وحدات حماية الشعب (YPG) هي النتيجة الحتمية وضرورة ملحة للمرحلة وقتها حيث تأسست بشكلها الفعلي والرسمي في نهاية العام 2011م وكانت من أهم مهامها وأبرز أهدافها حماية المناطق المحلية والمحافظة على الممتلكات العامة من النهب والسرقة وأيضاً المحافظة على المؤسسات والمرافق الخدمية…..الخ. ومع تطور الأحداث على الساحة السورية بدأت القوى العسكرية المعارضة بالانحراف عن مسارها، وبدأ النظام في المقابل بالتكشير عن أنيابه أكثر فأكثر وأصبح أكثر تشّدداً وقسوة على الشارع الأعزل، وتجلى ذلك مع نهاية العام 2012م ودخول القوات العسكرية المعارضة إلى سري كأنيه (رأس العين) بدعم مباشر من النظام التركي، فكانت هذه الحركة بمثابة إنذار مبكر بتبلور أوجه التناقض داخل المعارضة بشقيه السياسي والعسكري، فبدل التوجه نحو النظام والزحف نحو المركز تبين مبكراً انَ هناك أطماع في الجغرافيا الكردية والمناطق التي تحتوي على خيرات البلاد ومقدراتها ولتتوضح الصورة جلياً أن هناك بعض ضعفاء النفوس الذين يحاولون النيل من لقمة الشعب. كل ما سبق كانت من الأسباب الجوهرية والمباشرة لتقوية وحدات حماية الشعب ورفده بوحدات حماية المرأة (YPJ) مع حلول ربيع العام 2013م.

ثورة التاسع عشر من تموز والبدء بالتحول الجوهري.

مع توضح الصورة رويداً رويداً بدأت القراءات للمشهد السياسي العام، ومع تشرذم الحركة السياسية الكردية في غرب كردستان بدأ توضح الصورة السياسية العامة في التبلور وذلك بتواجد خطين سياسيين متمثلين في المجلس الوطني الكردي الذي تبنى الخط العام للمعارضة السورية والمتمثلة في المجلس الوطني السوري وهيئاتها وقتها، ومجلس الشعب لغرب كردستان والذي تبنى الخط المحايد من الصراع ما بين النظام والمعارضة على السلطة، وبدأ بتبني نهج الأمة الديمقراطية في قيادة المجتمع، حيث بدأ مباشرةً وبعد التاسع عشر من تموز من العام 2012م، ببناء المؤسسات والمراكز واللجان الخدمية هكذا حتى تكللت في نهاية المطاف بالإعلان عن الإدارة الذاتية الديمقراطية في الكانتونات الثلاث (الجزيرة، الفرات، عفرين) مع بداية العام 2014م. بطبيعة الحال لم يرق ذلك للقوة الإقليمية المناهضة للحقوق الكردية وعلى رأسها الدولة التركية، فبدأت مبكراً عن طريق أذرعها من القوى الإسلامية الراديكالية المتمثلة ب (داعش) بمحاربة هذا المشروع الوطني بإدارة كردية، فبدأت بمحاربة الكرد في كوباني وذلك لما لكوباني من رمزية لانطلاقة الثورة الكردية في غرب كردستان فيها، فكان الهدف الرئيسي من ذلك إخماد ووأد الثورة من نفس المكان الذي انطلق منها، ولكن كانت كوباني هي فعلاً قلعة الصمود ونقطة التحول في مفصل الثورة السورية والكردية معاً، وذلك بدحر الإسلام المتطرف وإسقاط فكره وقوته العسكرية وهمجيته التي أرعبت العالم بأسره، وكما في كل مرة أصبح الكرد رأساً للحربة يحارب عن العالم أجمع في خط الدفاع الأول في وجه أعتى قوة عسكرية إرهابيه حتى تم دحره نهائياً في آذار من العام 2019م.

ماذا بعد أحد عشر عاماً على الثورة؟

في خضم الحرب الدائرة في سوريا كان شمال وشرق سوريا هي الوجهة الأمثل والموديل الأكثر انجذاباً حيث تم تشكيل وتطوير جميع المؤسسات الخدمية والاجتماعية والثقافية مع احترام خصوصية جميع المكونات الموجودة على هذه الجغرافيا. حيث تعتبر المناطق الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية هي المناطق الأكثر أماناً كما وإنها تعتبر الأكثر استقراراً نوعاً ما اقتصادياً واجتماعياً (لو استثنينا من ذلك التهديدات التركية المتكررة)، ورغم المعاناة الاقتصادية التي تعيشها جميع الجغرافيا السورية، فقد تدهور الاقتصاد السوري في غضون الأعوام الثلاثة الماضية بشكل متسارع وذلك بطبيعة الحال بسبب عوامل داخلية بحتة مضافاً إليها الأزمات الاقتصادية العالمية الخانقة بعد جائحة كورونا، والصراع العالمي المتمثل بالحرب الروسية الأوكرانية.

ربما أن عودة سوريا إلى ما هو عليه ما قبل الخامس عشر من آذار عام 2011م يعدُ ضرباً من الخيال، فقد اقتراب عدد ضحايا الحرب من المليون ضحية وأكثر من نصف سكان سوريا ما بين مهجر قسراً ولاجئ إماّ داخلياً أو خارجياً، أما البقية المتبقية فقد أصبح يعيش تحت خط الفقر مع كل أسف وذلك بحسب آخر الإحصاءات الدولية في هذا المجال لصندوق النقد الدولي، وهنا لابد من طرح البدائل، وهنا يكمن ماهية نتائج الثورة، لماذا كل هذا الجنوح إلى القوة المفرطة والتعنت في فرض الحل العسكري وعدم اللجوء إلى حل وسطي يلائم الجميع، ولم يتم تقديم أي برنامج أو خطة للحل من قبل أي طرف من أطراف النزاع في سوريا داخلياً لا النظام القائم ولا المعارضة المتشرذمة أصلاً، عدا اللهم القرار الدولي الذي تبنى رؤية المبعوث الدولي الخاص في جنيف وتم بموجبه اعتماد قرار مجلس الأمن الدولي (2254) كنقطة نظام ومرجعية دولية للبدء في أفق الحل السياسي.

في المقابل تم طرح مشروع الأمة الديمقراطية المعتمد على فكر وفلسفة القائد الكردي عبد الله أوجلان والبدء بتطبيقه على أرض الواقع في شمال وشرق سوريا والذي يعتمد على إدارة المجتمع نفسه بنفسه بحسب مبادئ وقواعد يحافظ فيها كل قومية أو معتقد ديني على خصوصيته الاجتماعية والثقافية والعقائدية، دون الاضطرار إلى حكم شمولي أو مركزي ربما تعتبر التجربة التي يعيشها سكان شمال وشرق سوريا حالياً أهم اثبات على صحة وأهمية هذه التجربة، اليوم وأكثر من أي يوم مضى يعيش العالم بأسره بعيداً كل البعد عن القرارات المركزية أو الدكتاتورية وأن معظم الدول المتقدمة في العالم المتطور تكنولوجياً أو حتى بعض الدول الناشئة في المجال الديمقراطي واحترام حقوق الإنسان يعيش حالة من الكونفدرالية أو شكل من أشكال القرار المستقل داخلياً، وهذا إذ يدل على شيء فهو يدلُ على مدى أهمية التوجه إلى هكذا نموذج أو شكل من أشكال القيادة أو الإدارة.

زر الذهاب إلى الأعلى